نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 30 آذار 1990
لست وحدك في فلسطين، يا صاحب الأيام جميعاً بفضل أرضك، فلسطين معك، أنت فيها وهي فيك، والركب ـ وإن تأخر ـ آت.
لست وحدك في جبل عامل وسائر المحتل من أرض لبنان. أرضك معك. أرضك السيف والترس، الحصان والحجر، الرمح والراية وبشارة النصر.
عدوك أقوى منك . لكنك بأرضك أقوى منه.
عندما أمسكت بأول حجر تهاوت قوته الأسطورية ، فإذا بعض ترابك أقوى من حلفه الاستراتيجي مع القوة الأميركية الأعظم، ومن قنابله الذرية المخزنة في “ديمونا”.
وعندما رشقت الحجر، اهتزت الدنيا، وصرت لها القدوة والشعار والهادي إلى سلاح التغيير الفعال في عصر الكومبيوتر والمعلوماتية والأقمار الصناعية الكاشفة لأدق الأسرار.
في عصر انتهاء الثورات وانطفائها أشعلت ناراً لا تنطفئ، واصطنعت بأرضك وبفضل وجودك فيها ومعها بداية جديدة للدنيا وتاريخ الإنسان فيها.
تسقط القذيفة على الأرض فتتشظى ويمتصها التراب، وتبقى الأرض.
يسقط الشهيد على الأرض فيحيا ويتدافع العشرات ممن ولدهم في لحظة سقوطه لكي يكملوا ما بدا، وتزهر الأرض ويثمر شجرها.
تنفجر الرصاصة ثم يتلاشى الصدى ولا تكف الأرض عن إنبات البيلسان والنرجس والياسمين.
تخدش الدبابة وجه الأرض وتترك فيه ندوباً، ولا تكف الأرض عن التجدد فإذا الخدوش مروج سندس وإذا الندوب رياحين تهب العين بهجة الاحساس باللون.
للأرض الأيام جميعاً، الشهداء جميعاً ونبضات قلوب الأطفال الأكبر من الرجال وهم يستأنفون مع الصباح معركة حجارة الأمس المسائية.
للأرض الأيام، العمر، الزمن والأجيال الآتية.
فليس بعد الأرض مكان، وليس بعد الأرض زمان، وليس خارج الأرض اسم أو علم.
جبينك الأرض، حتى وأنت ترسل دعاءك إلى السماء.
احمل حجرك واتبعه. احمل حجرك وارشق به كل مفرط بالأرض، كل مقسّم للأرض، كل مضيع لوحدتها. من يتهاون في وحدة الأرض يعاديك مهما تشدق بشعار التحرير.
احمل حجرك تحفظ وليدك والرغيف. ارشق حجرك فيسقط ليل الظلم وينبثق فجر السلام،
احمل حجرك فتحب الحياة أكثر، ارشق حجرك فتكتسب حياتك المعنى.
ارضك هي البقاء والخلود. أرضك البطولة والبطل. أرضك الكرامة والنشيد. أرضك القصيدة والأغنية. أرضك الحب والحبيب. أرضك القيادة والقائد. من حفظها حفظك من ساوم عليها باعك في سوق النخاسة.
أي سفاح ذلك الذي يبيع عطر زهر الليمون وضوع نجيع الشهداء؟!
الأرض هي نسبك والهوية. ألست تنسب إليها. أنت “الياء” لكنها الحروف جميعاً.
أزرق العيني في أرض السمراء بشرتهم غريب،
ومن يرطن في أرض الفصحى دخيل.
أفليست الأرض مصدر لونك واللهجة ومخارج الحروف؟
لا تهاجر الأرض ولا تغترب. لا تتبدل ولا يتغير هواها. لا تضيع عن صاحبها ولا تهجره أو تتخلى عنه. فإن هجرها طاردته في المغتربات و”فضحت” نقص ولائه إن هو أخفى انتماءه.
أليست هي تعطيه الزهر والثمر والظل وماء الحياة وشرف الانتساب إلى المكان والعصر؟!
يسقط فيها فلا تسقطن بل تحفظه وتبقى لولده، ويسقط خارجها فتستعيده ليستمر فيها وتستمر وفية لأهلها وعشيرته وورثة عرقه فيها أو من أجلها؟!
الأرض هي السلام، موئله وغايته، ومن دونها ولأجلها تكون الحرب… فكيف تصير الأرض موضوع مقايضة بالسلام الموهوم؟! وأنى يكون سلام في أرض مغتصبة أو رهينة؟!
إن لم تقدر على التحرير فلا تصالح. سوف تنتظرك الأرض جيلاً بعد جيل. لن تغدر بك ولن تخونك ولن تقبل بعضك وترفض البعض الآخر أو تنساه… فلماذا تهين الأرض بأن تنسى أو تتناسى بعضها حتى لا تتحمل عبء تحريرها، تحرير ذاتك؟!
لا تحزن وأنت تستشعر وحشة الوحدة، ويغرقك ليل التخلي وهم التفريط وذل المساومة المهينة على الأرض.
للأرض ثورتها، في أربع رياحها، وها هي قد بدأت أو تكاد.
فاحتضن أرضك، كرضيعك، كحبيبة العمر، وابق معها وفيها. لا تهجرها ولا تتخل عنها. الموت فيها حياة، والحياة خارجها أسوأ من الموت وأحط.
لا تياس وأنت تفتقد لدنيا الصدى وامتداد الفعل.
لنا دهر في الخدر. وقد عانيته قبلنا، فاصبر على أخوانك كما صبروا عليك.
للأرض ثورتها، وهي آتية، ودبيب حركة تقدمها البطيء يكاد يسمع في كل مكان.
احمل حجرك واتبعه.
وليكن حجر كل منكم في يمينه،
فالأرض حاضنة الدم والشهادة، ولادة الحجر والإرادة والغد الأفضل.
الأرض بداية البدايات جميعاً، مدد التاريخ ومداده والمدى.
فامتشق دمك حجراً، واصطنع غدك بدمك، وإلا ذهب مع أرضك يومك وغدك وتاريخك كله.