ليس مقنعاً الادعاء بأن الغرب كله مجتمعاً في الحلف الأطلسي الذي بات يضم تحت قيادته الأميركية دول أوروبا الغربية ومعظم أوروبا الشرقية، إنما يقاتل رجلاً واحداً هو الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش.
ومن باب أولى ألا يكون مقنعاً الادعاء بأن هذا الحشد العسكري الهائل الذي يذكّر بقوة نيرانه بجيوش »التدخل الدولي« في »حرب الخليج« ضد غزوة صدام حسين للكويت، إنما يقصف مستخدماً أحدث ابتكارات التدمير الشامل حماية للديموقراطية من العنصرية، وتوكيداً لحق تقرير المصير للمستضعفين في الأرض، وتعزيزاً لحقوق الإنسان.
ذلك أن تجاربنا العربية، على الأقل، لا تعطي الغرب، والأميركي بشكل خاص، مثل هذه الصورة المشرقة، فلم تعرفه دنيانا حامياً للديموقراطية أو مساعداً للمنتقصة حقوقه في أرضه لكي يقرّر مصيره أو ينتزع مصيره من يد الاحتلال (الإسرائيلي تحديداً) أو مكافحاً منافحاً مدافعاً عن حقوق الإنسان.
لا بد، إذن، من البحث عن أسباب أكثر إقناعاً أو أكثر جدية من عنصرية ميلوسيفيتش أو من ادعاء نصرة المقهورين في كوسوفو المهجرين إلى ألبانيا حيث لا خبز ولا أمان ولا حرية ولا حقوق للإنسان.
وواضح أن بعض الدول المشاركة في القصف المنهجي ليوغوسلافيا »تبكي ثم تبعث« بطائراتها الحربية لتدمر وتنسف،
وبالتالي يصبح مفهوماً أن يكتب جنرال فرنسي أن حرب كوسوفو بيّنت أن الأوروبيين باتوا عاجزين عن فعل أي شيء من دون الأميركيين،
ومخيفة هي الحقيقة الصارخة التي كشفتها هذه الحرب من أن أوروبا قد عجزت فعلاً عن حسم أزمة في قلبها، تتفاعل منذرة بخطر التفجر منذ سنوات طويلة، بكل ما يعنيه ذلك من انبعاث للذكريات السوداء واستعادة لصور المجازر وحروب الإبادة التي اختلطت فيها الأعراق والقوميات والأديان على امتداد القرون الماضية، والتي بالكاد عرفت صيغة تسوية في تقسيم البلقان أواخر الحرب العالمية الثانية، وعبر الصيغة الأرقى من القوميات ممثلة بالنظام الاشتراكي.
.. وهو تقسيم يروي ونستون تشرشل تفاصيله المثيرة، وكيف تم بتواطؤ ضمني بينه وبين ستالين، من فوق رأس الحليف الأميركي، ومن خلف ظهور الشعوب المعنية: أي اليونان والبلغار والصرب والألبان والرومان الخ..
أطرف وأخطر ما يرويه تشرشل يتصل بالوريقة الصغيرة التي بعث بها إلى ستالين، والتي أشَّر عليها الزعيم السوفياتي بعلامة »صح«، وحيرته في كيفية إتلاف الوريقة الوثيقة، مع الرغبة في حفظها لقيمتها التاريخية.
ليس ستالين موجوداً اليوم ليؤشر بالصح أو بالغلط على التخطيط الجديد لقلب أوروبا،
كذلك ليست الأمبراطورية العثمانية موجودة اليوم لتتقاسم مع الأمبراطورية النمساوية العالم، على قاعدة دينية (الإسلام والمسيحية)،
بل ليس ثمة أمبراطوريات إلا واحدة لا غير!
وهنري كيسنجر يدعو إلى انتشار القوات الأميركية في البوسنة محذراً من أن الحرب العالمية الأولى بدأت في البلقان ليس نتيجة لنزاعات عرقية بل لأن القوى الخارجية تدخلت في صراع محلي!!
أي أنه يدعو إلى السياسة ونقيضها، نافياً عن ميلوسيفيتش أنه هتلر جديد، مطالباً بالتدخل العسكري (البري) منعاً لاتساع رقعة الحرب في البلقان، خصوصاً »وأن أزمة مقدونيا قد تواجهنا محددة بحرب بلقانية واسعة«.
على أن أصواتاً أميركية كثيرة، ترتفع محذرة من أن تصبح كوسوفو »خليج خنازير« جديداً، للأميركيين، تذكيراً بالهزيمة على أيدي الكوبيين في عصر كينيدي، متسائلة عن الحلف الأطلسي وهل بات »ضرورة أخلاقية« وجمعية مثالية للمساعدة »الإنسانية«؟!
كذلك فثمة من يتخوف من عودة شبح فيتنام، مشدداً على ضرورة عدم التدخل في أية حروب أهلية.. فتكتب ماري ماغروي في الهيرالد تريبيون: »لماذا نتذكر دائماً ميونيخ وكيف كان يجب التدخل لوضع حد لمجازر النازية ولا نتذكر فيتنام وحرب الخليج حيث لم تسفر الحرب والضربات العسكرية عن أي تغيير في الوضع على الأرض«.
أما »لوموند« الفرنسية فترى الحرب »قفزة في المجهول« وتنتهي إلى التحذير من أن تنتهي الأمور في كوسوفو على »الطريقة العراقية«،
… بينما اليورو ينخفض إلى أدنى درجاته منذ إطلاقه كعملة لأوروبا الموحدة، وتتعاظم المخاوف من عواقب الحرب على الاقتصاد الأوروبي،
لكن السؤال عن روسيا، أولاً وأخيراً، فالحرب في بعض جوانبها حرب عليها: ضرب على الأطراف، أو على العصب، بحيث يكشف عجز المركز عن حماية نفسه فكيف بإنجاد »إخوته الصغار«.
وفي حين يرى الروس في الأمر اغتيالاً لروسيا كأقوى قوة أوروبية، بعدما فقدت موقع »القطب الثاني« في المعادلة الكونية السابقة، فإن 74 في المئة من الأميركيين يرفضون التضحية بأرواح أميركية لتحقيق أهداف بلادهم في يوغوسلافيا.
إنها حرب أميركية جديدة يُراد أن يتوفر فيها النصر السياسي الباهر.. مجاناً!
فقط سيتم تمزيق دولة أو أكثر، وتشريد شعب أو أكثر، وشطب دولة عظمى سابقة، تستجدي ثمن طعامها فلا تعطى، حتى تلغي نفسها بنفسها وتتهاوى معلنة نهاية عصر بكامله.. ليس بالمعنى الإيديولوجي أو السياسي فقط، بل كذلك بالمعنى العرقي.. فالعولمة تغني عن السلافية أيضاً!
إنها حرب القطب الأوحد، وليست الحرب على الرجل الواحد.