نشرت في السفير في 25 ايلول 1998 لمناسبة وفاة جمال عبد الناصر.
استغرق الأمر ربع قرن من التحقيق والتدقيق قبل إعلان الخبر: إنه حقاً مات! ولا خطر من عودته أو من انبعاثه حياً اليوم أو غداً أو بعد غد!
وهكذا بدأ التشييع الثاني لجمال عبد الناصر: أشرطة سينمائية رخيصة الكلفة، مرتجلة »الأبطال« والشخصيات، سريعة الإطلاق، إعلانها بالصورة أقوى من مضمونها بالفكرة والكلمة ومغزى القرار، ثم الإفراج عن بعض أغنيات »الزمن الجميل«، والسماح بعودة صورته إلى الأفلام القديمة، وأخيراً إنتاج ملكي السمو للحلم العربي الذي يتخذ منه معبراً إلى مسلسل المآسي والهزائم التي عشنا أو نعيش.
في الماضي البعيد كان عرب الجاهلية يصطنعون آلهتهم من التمر فإذا جاعوا أكلوها، تقول كتب التراث،
في الماضي القريب قتل العرب أنبياءهم حتى إذا أثقلت عليهم الجريمة فأدخلتهم ليل الهزيمة، انتبهوا إلى خطورة أن يتحرّكوا ولا رأس لهم، فعادوا إلى المقابر يعتذرون إلى ضحاياهم ويطلبون منهم الصفح وتسلّم قيادتهم من جديد.
الميت لا يقود ميتاً، أو أن الميت الحي لا يقود حياً ميتاً،
على أننا بلا أحلام… فقد اغتال قتلة الأنبياء الأحلام فينا، وأغرقونا في »واقع« لا أمل فيه ولا قبس من نور أمامه يبشّر بنهار غد جديد، فصرنا نخلط بين الحلم وبين الكابوس.
على أن الناس صفقوا للكابوس ورددوا كلمات أغنياته الملفقة والهشة البنيان والمعنى، لأنها تذكرة عودة إلى قدراتهم المهدورة، إلى أسمائهم المنسية، إلى أيامهم المغدورة، بل أنهم بكوا حين انتبهوا إلى أنهم كانوا يقدرون، وقد قدروا.
تجاوزوا هشاشة التأليف ورخص الإنتاج وابتذال التمثيل وابتسار المعنى واكتفوا بعبق الذكرى التي ساعدتهم على استعادة ملامحهم وأسمائهم والاعتبار وإمكان أن ينظروا في عيون أبنائهم والأحفاد: هؤلاء آباؤكم!
لم يقتل التشويه المتعمّد والإدانة الملحاحة جمال عبد الناصر وحده، وقد كان قد رحل ولم يعد ثمة خطر من احتمال عودته »ليحاسبهم«،
قتل جيلا او جيلين من الرجال والنساء والفتية الذين أعطوا فجعلوه قادراً، وتعبوا وسهروا وعرقوا فمكّنوه من أن ينجز معهم وبهم،
لم يكن جمال عبد الناصر إنساناً فرداً مُنح القدرة على اجتراح العجائب والإتيان بالخوارق، ولم ينجز بجهد عقله وساعديه وتعب العينين فحسب، بل هو قد نجح بهم، صار فيهم وصاروا فيه فإذا قوتهم هائلة تغيّر مجرى التاريخ وتصطنع فجراً جديداً.
وهو الآن ليس في الماضي، إنه في الغد: إنه يتحدى كل لحظة أولئك الذين يعملون على تغييب الإنسان العربي القادر والمؤهل لتغيير الواقع،
ليس ذكرى. إنه مصدر أمل: نقدر! لا بد من أن نقدر. نفشل مرة أو مرتين، لا بأس، نكرّر المحاولة حتى ننجح، أما الانهزام والهروب من الميدان فذلك هو الموت الذي لا بعث بعده ولا مَن ينشرون.
في الذكرى الخامسة والعشرين لحرب تشرين يجيء مع طابور الشهداء الذين أكدوا القدرة ليدلنا على طريق الأمل: القرار بالمواجهة، مواجهة النفس، مواجهة الآخر،
والحرب سجال، ولا محال، وما زال بالإمكان أن نغني!