لم أتصور في شبابي أنني سوف أعيش إلى يوم أعترف فيه لفندق بعينه، وليس لمدرسة أو جامعة، بالفضل على ما تعلمت خلال إقاماتي المتناثرة فيه، كما أنني لا أذكر أن الفندقة كانت بين المهن التي سعيت إليها رغم وجاهة ما تؤديه وحجم ما تكتمه من قصص وروايات أقرب إلى الخيال وهي في الأصل حقائق كل يوم. وعلى كل حال لم أشك للحظة واحدة قبل سنوات كثيرة ولليوم أيضا أنني لو كنت اخترت الفندقة حياة ومهنة ومصدر رزق لعشت لا أشكو من ملل أو وحدة إلى آخر يوم في حياتي.
الفنادق ليال. جرت عادة أصحابها ونزلائها أن يحسبوا الإقامة فيها بعدد الليالي. كنزيل شديد الولاء أعترف بأنني كثيرا ما فضلت قضاء الليل بالفندق مع من أختارهم من محبي السهر عن أن أسلم نفسي لهم أو لبيوت ليل أو لساكني قصور لا أعرف عنهم وعنها إلا القليل. عشت أقيس كفاءة الفندق، أي فندق، ليس فقط بما يؤديه من واجبات في خدمة مؤتمر بالنهار وانضباط موظفيه وعماله أثناء تقديم وجبة غداء راقية وفي أجواء صديقة وغير رتيبة، ولكن أقيسها أيضا بالأمن والهدوء اللذين يوفرهما وتتميز بهما لياليه. زبائن النهار، مثل المشاركين في مؤتمرات الكلام ومناقشات الفن السينمائي وأنشطة المجتمع المدني وعروض الأزياء و”بروفات” مسابقات ملكات الجمال، تنتهي علاقتهم بالفندق بنهاية نهارهم. أما نزلاء الليل فعلاقتهم بالفندق متطورة طول الليل ويفيض منها ما يفيض في نهار اليوم التالي.
ذات يوم جرى بيني وبين أحد الفندقيين الأجانب حديث مطول وممتع. أذكر أنني قطعت الحديث لأقترح عليه أن يعود لغرفته فأهل بلده شهرتهم النوم المبكر. أجاب أنه لا يأوي لفراشه إلا إذا نام كل النزلاء، أو إذا اطمأن إلى أنهم في أمان. سألته وكيف يعرف أنهم سيكونون في أمان، أجاب بكل الثقة الممكنة، “سيدي، أنا أعرف من اختاروا للسهر معهم. وإذا تعذر أن أعرف بالدقة اللازمة قضيت أنا الليل ساهرا.”
غبت عن فندقي عامين أو أكثر قليلا. كنت أسمع من بعيد أن الفندق قرر تغيير الديكور. يا إلهي، كم أتوجس شرا كلما همس أحد أو همست إحداهن في أذني عن نيته أو نيتها تغيير الديكور. وصلت كعادتي في الثانية ظهرا وصدمت ولكن لم أغضب. منذ متى كان يحق لنزيل أن يشتاط غضبا لأن صاحب الفندق قرر تغيير الديكور. لذلك احتطت للأمر وتصرفت بنعومة حرصا على استمرار علاقة بين نزيل عاشق للفندق ومالك حر فيما يملك. ومع ذلك لم تفلح الحيطة طويلا وتغلب الغضب المكتوم. أنا النزيل الذي لم يشك يوما خلال أربعين عاما، ما إن دخل غرفته إلا وأبلغ عن شكوى. الوسادة ليست مريحة!. ما هي إلا دقائق وكانت مندوبة الإدارة تساعدني في نقل أمتعتي إلى جناح في طابق لم تمسه يد التحديث ويلتحق فيه بغرفة النوم صالون مؤثث تأثيثا فاخرا. دقائق أخرى ودق الباب وظهرت الوسادة المريحة وأشياء أخرى من العهد القديم زينت الجناح وأضافت ثراء إلى ما فيه من ثراء.
ما لم يتغير كان كثيرا أيضا. الموظفون لم يتغيروا. المطبخ احترم سمعته فلم يتغير. أذكر أنني تناولت الإفطار ذات صباح مبكر ودار حوار بيني وبين سيدة متقدمة في العمر كانت تشغل المائدة المجاورة ولها فيما بدا لي علاقة وثيقة بأصحاب الفندق أو بإدارته. تحدثنا عن مفهوم الفندقة في ثقافة وأدب الرحلات في التاريخ العربي. عقبت السيدة على كلامي فقالت “يبدو أنك بين القلائل من النزلاء الذين فهموا أن لكل فندق رسالة. رسالتنا، أو فلنقل عقيدتنا، فنحن في لبنان هوايتنا جمع العقائد وإن خلت الساحة ولم تجدد في مخزون عقائدها، صنعنا عقيدة بين ليلة وضحاها. رسالتنا في هذا الفندق، يا مسيو…، نشر ثقافة الحب. وهو ما كنا نفعله قبل وأثناء الحرب الأهلية وما زلنا نقوم به بكل الاقتناع والإيمان. غيرنا الديكور، ونعتذر لك، ولكن لم نغير رسالتنا إيمانا منا بأن الحب، حتى لو كان وحده كل ما تبقى لنا، أبقى وأحسن”.
يوزعون كل ليلة رسائل حب في طباعة أنيقة وبتوقيع قلم رشيق. كل ليلة أعود إلى غرفتي مدفوعا برغبة رائعة في قراءة آخر رسالة حب. أذكر من هذه الرسائل رسالة مقتبسة من نيتشة نصها “هناك دائما بعض الجنون في الحب. لكن أيضا هناك دائما بعض العقل في الجنون”. أذكر أيضا رسالة نقلت عن باولو كولهو قوله “عندما نحب نحاول دائما أن نكون أحسن مما نحن عليه. وعندما نحاول أن نكون أحسن يصبح كل شئ حولنا أحسن أيضا”. ولم أنس رسالة منقولة عن فيلسوف إغريقي أوجز فأحسن قال “أعظم متعة في الحياة هي الحب”، ورسالة مقتبسة من كتابات اللورد تينسون تقول “أحسن لنا أن نحب ونفشل عن أن لا نحب أبدا”.
لم يدخل ضيف غرفتي في هذا الفندق الذي عشقت إلا وقرأ رسالة الحب التي لم ينس من رتب الغرفة للسهر أن يتركها فوق الوسادة المريحة مع علبة الشوكولا الشهيرة وزهرة حمراء. سمعت أصدقاء يشيدون بأجواء الحب التي كانت تجمعهم كلما أقاموا في الفندق أو سهروا الليالي ضيوفا على نزلاء فيه يناقشون دور الحب في إنقاذ لبنان من مصير بدا للكثيرين أمرا واقعا. أحسنت أو أحسن صنعا من جعل الحب حديث وسلوك النزلاء وضيوفهم على امتداد عمر هذا الفندق العتيد. عشت فيه ألف ليلة ورحل مدينا لي بالليلة بعد الألف.
لا أعرف تماما إن كان إغلاق فندق البريستول مؤشرا لما هو قادم في لبنان أم أن انحدار لبنان صار حقيقة واقعة وما كان البريستول ليسقط لو لم يتأكد لأصحابه والعشاق من نزلائه أن لبنان يقترب حثيثا من هاوية. البريستول ظاهرة حب ووفاء ومستقبل ولا يمكن تصوره قائما وفاعلا ومبشرا بالحب في دولة كادت بالكره والعصبية تتلاشى. حاول البريستول أن يتغير ولكنه كمعظم مؤسسات وطموحات لبنان لم يعرف في أي اتجاه يتغير. تخبط حتى اكتشف أنه إن استمر فسوف يعيش مقعدا في دولة متقاعدة. هكذا رأيته وأحسست بأزمته في آخر مرة نزلت فيه بعد ما أجراه من تغييرات “بلا طعمه”. تغير ولكن قبل أن يعرف لمن يتغير.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق