طلال سلمان

لبنان وقضية مسيحيي عراق كرد متهمون ولكن اين احتلال اميركي

من الطبيعي أن يكون لبنان مركز الدائرة في الاهتمام ورفع الصوت بالاعتراض على الاعتداءات المنظمة التي دبرت وتدبر ضد بعض أعرق العناصر التي يتكوّن منها الشعب العراقي، وهم الكلدان والأشوريون نسباً والمسيحيون ديناً.لا يتصل الأمر بالحساسية تجاه »مسيحيي العراق« فحسب، بل ضد المخاطر المتفاقمة على الكيان السياسي للعراق، أي على وحدة دولته وشعبه في ظل الاحتلال الأميركي الذي ورث عن نظام صدام حسين سياسة تحريض فئات من الشعب ضد فئات أخرى، واعتماد التمييز (العرقي أو الطائفي أو المذهبي) لبعثرة العراقيين وإعادتهم إلى عناصر التكوين الأولى، لكي يتمكن من إخضاعهم جميعاً لهيمنته، وتصوير الاحتلال وكأنه قوة الفصل الضرورية أو عنصر الأمان لسلامة الجميع.ومن الطبيعي أن يكون لبنان الأعلى صوتاً في استنكار الاعتداءات التي ارتكبتها قوى كردية منظمة ضد أقلية عرقية وطائفية، لأن أهله قد عانوا طويلاً مرارة الشقاق بين الإخوة وبعثرتهم في جبهات متواجهة ومقتتلة، بما يهدد وحدة الشعب ويصدع الكيان السياسي القائم على هذه الوحدة والضامن لها… ودائماً لحساب الأجنبي، مهما سرى من أوهام في أوساط بعض الطامعين بالسلطة والثروة، وعلى حساب الوطن.وبرغم أن البعض يفضل النظر إلى أحداث الموصل وكأنها »مسألة طائفية« ويحاول أن يفصلها عما يدبر للكيان السياسي للعراق، تحت الاحتلال الأميركي، فإن اللبنانيين يستذكرون ما أصاب المسيحيين في فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومحاولات ضرب وحدتهم هنا في لبنان بالفتن الطائفية والمذهبية التي صدعتها، وكادت تذهب بكيانهم السياسي، من خلال إخراج المسألة من السياسة وصراعاتها الداخلية ومع »الأجنبي« لوضعها في خانة حرب الأديان والطوائف أو حرب القوميات…[ [ [ومما يلفت ويثير القلق أن العالم قد »اكتشف« فجأة، وكشف لأهل هذه المنطقة العربية المنداحة بين الماء والماء أنها أوطان لأقليات مقتتلة في أمسها، وعلى امتداد تاريخها، ومقتتلة في يومها على مستقبلها ككيانات سياسية منفصلة ومحتربة إلى يوم الدين!تمّ إسقاط عناصر الوحدة أو الاتحاد أو التوحيد، بالمصلحة، لكي تبرز عوامل الاختلاف والفرقة التي تبرر الانقسام والتقسيم ولو بالحرب، ودائماً بالاستناد إلى »الأجنبي« وبالاعتماد على كونه صاحب القرار.أما أمر لبنان فمفهوم، وخصوصاً أنه بات في حكم المسلمات القول الشائع بل والمعتمد رسمياً فيه أن الأخطر في مبررات كيانه السياسي هو أنه »موطن للأقليات« عموماً وللمسيحيين بشكل خاص.ومع كل أزمة سياسية يستولدها نظامه العاقر تعود إلى السطح كل المقولات التي تزعم أن »الغرب« الذي أنهى الإمبراطورية العثمانية قد استولد لبنان، بكيانه الراهن، عبر عملية قيصرية قضت بفصله تماماً عن سوريا ووسعت المدى الجغرافي لمتصرفية جبل لبنان، التي هي حصيلة استنزاف »الرجل المريض« بأن ضمت إليها ما كان يعرف بـ»الأقضية الأربعة« لضمان أن يكون المسيحيون عموماً أكثرية، والموارنة بين المسيحيين هم الأكثرية الغالبة وبالتالي فلهم السلطة… أما الحماية فتشمل الكيان والسلطة معاً.على أن هذه الصيغة لهذا الكيان لم تكن مهيأة للصمود لا أمام التطور الديموغرافي ولا أمام التحولات السياسية التي زلزلت المنطقة بعد إقامة الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين.كان هناك دائماً خلط بين صراع القوى السياسية على السلطة وبين »الضمانات« المعطاة للأقليات في كيان أقيم بالأصل على أساس الفصل بين أهله طائفياً ومذهبياً. وصار أي جدل حول السلطة وكأنه حرب على »الامتيازات« التي تمتعت بها بعض الطوائف. والحقيقة أن هذه »الامتيازات« لم تكن في أي يوم »ضمانات«، بل لعل الإفراط في استخدامها قد جعلها بين أسباب الحروب الأهلية التي كان عنوانها الدائم ضرورة إصلاح النظام السياسي بهدف المساواة بين »الأهالي« لكي تستقر الدولة.[ [ [لم يتوقف أي مستعمر أمام الأقليات وانتماءاتها العرقية أو الدينية إلا بقدر ما استوجبت مصالحه.وعلى سبيل المثال فإن الكرد لم يجدوا في الغرب من يصغي لمطالبهم إلا عندما بدا وكأن النظام في بغداد يهم بأن يخرج على الطاعة. وتجربة الكرد مع »الدول« مأساوية بكل المعاني… والخوف أن تكون قراءتهم الراهنة لموقعهم من مصالح »الدول« متعجلة، وفيها شبهة الانتقام من… أهلهم العراقيين، كما من المحيط العربي الذي يعتبرهم من مكوناته، وإن اعترف لهم دائماً بحقوقهم في وطنهم وعلى دولته العراقية، بغض النظر عن موقف »النظام«، وغالباً بالتضاد مع النظام الذي كان يضطهدهم كجزء من سياسته العامة في اضطهاد الشعب العراقي بعناصره ومكوناته المختلفة.وها أن عملية تفسيخ العراق تتم أمام عيون أهله والعالم أجمع:فسخت أكثريته »العربية« إلى أقلية سنية وأقلية أخرى شيعية.وفسخت الأقليات الأخرى، الكرد والتركمان أساساً، مع محاولات لفصل الأقليات الأصغر (الكلدان والأشوريين، اليزيديين إلخ)..اتهم السنة في عروبتهم، وجرى تنسيبهم إلى السلاجقة والمماليك والأتراك…واتهم الشيعة في عروبتهم وجرى تنسيبهم إلى الإيرانيين (الفرس)…وأسبغت حماية دولية على الكرد، وعوملوا منذ أن أحبطت مغامرة صدام حسين بغزو الكويت، وكأنهم »مشروع دولة«… فلما تمّ الاحتلال الأميركي للعراق كله وإسقاط نظامه تم تشجيع الكرد على المضي قدماً في تحقيق »استقلالهم« دون أن يعلن انفصالهم عن الكيان العراقي (الرسمي) لتبقى لهم امتيازاتهم ومطالبهم المفتوحة في ما يعتبرونه من »أرض كردستان«، والتي تشمل كركوك وما حولها، والتي تمددت مؤخراً إلى الموصل، إحدى أهم حواضر العراق، والحاضنة الممتازة لعناصر شعبه من العرب والكرد والتركمان، كما من المسلمين، سنة بالأساس وأقلية شيعية، فضلاً عن المسيحيين (كلدان ـ أشوريين) الذين ينظرون إلى أنفسهم من خلال التاريخ باعتبارهم بعض مؤسسي العراق وبعض حفظة كيانه وهويته.لا يكفي الحديث عن اضطهاد النظام ومذابحه المنظمة ضد شعبه، عرباً وكرداً وتركماناً، مسلمين سنة وشيعة ومسيحيين، كمبرر لانفصال الكرد في منطقتهم.ولا يمكن التغاضي عن مسؤولية الاحتلال الأميركي بداية، ومن ثم القيادة الكردية، عن المذابح المنظمة ضد الكلدان والأشوريين (المسيحيين) في الموصل… إنها محاولة للتطهير العرقي والديني تمهيداً للاستيلاء على حاضرة الشمال العراقي، مما يسهم في تحطيم الآمال باستعادة العراق وحدته، وبالتالي كيانه السياسي، في الغد.إنَّ في ما يجري في بعض المناطق العراقية التي تحاول القيادة الكردية فرض هيمنتها عليها ما يذكر بفلسطين التي بين تبريرات إقامة الكيان الإسرائيلي على أرضها أن من حق الأقليات اليهودية أن يكون لها دولة… ولو على أرض شعب آخر لم يضطهد اليهود يوماً ولا هو عرّضهم للمحرقة أو المذابح الجماعية (كالتي ارتكبوها بحقه)… بالمقابل فإن »دولاً عربية« مهددة في هويتها نتيجة أن شعبها صار »أقلية« فيها قياساً إلى جحافل العمال والموظفين الذين شدتهم الثروة إليها وبدأوا يرفعون الصوت مطالبين بحقوق المواطنين، طالما أنهم هم من يبنون البلاد وليس أهلها… الأصليون!إن مخاطر التقسيم والتفتيت، على أساس طائفي أو عنصري، تتهدد المنطقة العربية عموماً، مشرقاً ومغرباً، وأبسط الواجبات الوطنية التنبه لما يجري في العراق تحت الاحتلال الأميركي، مما يذكر بالنكبة الفلسطينية التي كان للأجنبي بقواه المختلفة، والاحتلال البريطاني، الدور الأول فيها…وخوف اللبنانيين مشروع، وملجأهم وحدتهم الوطنية، وهم يساعدون إخوانهم العراقيين، مسيحيين ومسلمين، بقدر ما يحمون وحدتهم هنا في لبنان، في وجه مخاطر التقسيم والانفصال بضمانات مزورة من طرف الاحتلال أو من يسعى في ركابه.

Exit mobile version