لأن لبنان بلا داخل ، ولأنه دولة قيد التأسيس فإن مسلسل أزماته السياسية ستتوالى فصوله متوترة أو متفجرة بحسب مصالح الخارج في المنطقة من حوله، وهو فيها ومن ضمنها، مهما كابرت قياداته السياسية وتهدجت أصوات المتطرفين والمشاغبين وهي تدعو بعض الخارج لنصرة بعض الداخل … تحت شعار حماية الاستقلال والسيادة والقرار الحر .
الخارج يحاور في لبنان وعبره الخارج .. مرة بالمناورة، ومرة بالاشتباك، ومرة ثالثة بالتوافق من فوق رؤوس اللبنانيين، بمعزل عن توجهاتهم وانتماءاتهم وعصبياتهم الطائفية المموهة بالسياسة.
وتوافق الخارج يعني ببساطة تقاسم المصالح.. والمصالح مواقع نفوذ، وفيها الرئاسات والحكومات والإدارات والمؤسسات، وفيها بطبيعة الحال الاقتصاد والتعليم والثقافة والخدمات والعلاقات بالآخرين، كل بحسب قدرته على حماية مصالحه.
وها إن لبنان يعيش لحظة الذروة بين اشتباك الخارج مع الخارج، فلا تتوقف قياداته السياسية عن الصراع العبثي، لا سيما تلك التي تتوهم أنها مالكة السلطة والشرعية بالإشادات والتنويهات والتبريكات التي لا تفتأ تتوالى عليها من الخارج، بينما الداخل المأزوم ينذر بالتفجّر… ولات ساعة مندم!
ومن أسف فإن الخارج يتبدى أقوى بكثير من المبادرات التي تستهدف تحقيق وفاق بين أهل الداخل، على اختلافاتهم السياسية، وبالتالي فإن نغمة التهدئة السائدة الآن مرشحة لأن تضيع وسط تحريض الخارج ضد أية تسوية داخلية محتملة بعنوان العهد الجديد الذي يأمل اللبنانيون أن يطووا عبر التوافق على حكمه، بالرئيس والحكومة فيه، صفحة الخلافات التي عصفت باستقرارهم واقتصادهم وصورتهم في العالم… بل وفي عيون أجيالهم الشابة التي تهجره أفواجاً، وبأية شروط، حتى لا عين ترى ولا قلب يتوجع..
وأي عاقل يتابع التطورات التي تخلخل كيانات المنطقة من حولنا، والتي بلغت ذروتها بالمشروع الأميركي المعلن لتقسيم العراق تحت الاحتلال الأميركي إلى كيانات على قاعدة طائفية أو مذهبية أو عنصرية، من حقه أن يخاف كثيراً على مستقبل لبنان، الذي كلما اهتزت المنطقة بالتدخل الأجنبي عادت الدعوات التقسيمية إلى السطح، بذرائع بعضها طائفي مغلف بالسياسي وبعضها سياسي المظهر طائفي المضمون.
… وها هي الدعوة الأميركية للمؤتمر الدولي بالعنوان الفلسطيني تأتي في الموعد الأكثر ملاءمة لإسرائيل، فلسطينياً بالأساس، ومن ثم عربياً، خصوصاً أن الإدارة الأميركية تحاول غواية أهل القمة العربية بأن مؤتمرها إنما يأتي استجابة لمطلبهم، وتحقيقاً لتعهد رئاسي أميركي بمساعدة الفلسطينيين (أو من تبقى منهم) لإقامة دولتهم إلى جانب دولة إسرائيل ، والحقيقة أنها ستكون في بطنها، وليس إلى جوارها.
لا بأس هنا من استذكار بعض الوقائع ذات الدلالة، في هذه اللحظة، ومنها:
إن اتفاق أوسلو قد تم عقده خلسة ومن خلف ظهر الدول التي كانت ترعى مدريد، أو تشارك فيه، وبالتحديد من خلف الأطراف العرب، ولبنان وسوريا على وجه الخصوص.
اليوم لا حاجة لكثير من التحليل أو التمحيص لإثبات أن اتفاق أوسلو قد اغتال مؤتمر مدريد، وأن الظروف التي أحاطت بتنفيذه، قد قضت على ما تبقى من منظمة التحرير الفلسطينية، وأن شرطة السلطة قد التهمت ما كان تبقى من المقاومة الفلسطينية ومن إرادة الصمود التي عبّرت عنها الانتفاضة الأولى، ثم الانتفاضة الثانية..
كذلك لا حاجة إلى التذكير بما انتهى إليه أمر السلطة المنشقة على ذاتها الآن إلى حد الاقتتال، بما يحقق الغرض الإسرائيلي (الأميركي) الذي يتلخص بالادعاء أن الفلسطينيين غير مؤهلين لتكون لهم دولة ، وأن من مصلحتهم أن تتولى إسرائيل الانتداب عليهم (تخفيفاً لكلمة احتلال) لتؤهلهم من أجل أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم في كيان مستقل عنها مستقبلاً.
وطالما أن العرب أضعف من أن يستطيعوا أن يفرضوا،
… والفلسطينيين أعجز من أن يستطيعوا أن يحكموا أنفسهم، بشهادة مشروع الاقتتال الجديد بينهم، في الضفة الغربية التي تحكمها قوات الاحتلال بقوتها المباشرة، كما قبل أوسلو والسلطة، وفي غزة التي تصنف ككيان معاد ويوقَّع عليها الحرم الدولي الذي يترك للإسرائيليين أمر تصفية سلطة الأمر الواقع فيها لحساب سلطة رام الله … بل لحساب إسرائيل، حقيقة.
.. فمن حق اللبنانيين، على وجه التحديد، أن يخافوا من مثل هذا المؤتمر الذي سيحصد نتائج الضعف العربي جميعاً ويجيّرها لمصلحة إسرائيل…
وبديهي أن المؤتمرين سيتعاملون مع واقع الانقسام اللبناني الحاد، بل والمتفجر، إذا لم يكن اللبنانيون قد توصلوا إلى صيغة توافق لإقامة العهد الجديد، مما يشجع الحالة الانقسامية ويرعاها بالنفخ في جمر الحرب الأهلية.
فلا بد من اضطراب عظيم يغطي التنازلات العظيمة التي قد لا تتورع السلطة الفلسطينية عن الإقدام عليها بتأثير الوهم الذي تنشره الإدارة الأميركية ويروّج له العرب من أن تلك هي الطريق التي توصل إلى الدولة الفلسطينية المرتجاة… وفي حقيقة الأمر إلى نفض أيديهم، مرة أخرى وأخيرة، من القضية التي أنهكتهم طويلاً وفضحت عجزهم الذي يداني الخيانة.
والعاجز في فلسطين لن يحمي لبنان،
كذلك فإن الإدارة الأميركية المتحالفة مع إسرائيل على فلسطين بقضيتها وشعبها، لن تكون أرحم على لبنان وأهله المختلفين على بديهيات وجودهم، منها على الفلسطينيين الذين يمكن اتهام قادتهم بأنهم هم الذين ضيّعوا قضيتهم وحقوقهم في دولة على أرضهم.
فالخارج يظل خارجاً… حتى لو صار الداخل جحيماً لأهله.