كنت في انتظار حدث جلل في لبنان. كثيرون كانوا في الانتظار. لا أنا ولا أحد من هؤلاء توقع أن ينتج عن الحدث عند وقوعه كل هذا الخراب دفعة واحدة.
ما توقعناه يحدث في لبنان لا يختلف كثيراً عما نراه يحدث في غير لبنان. ففي النهاية، لبنان مثل غيره إن أفلح هذه المرة فسوف يعلن دولة شرق أوسطية مقدر لها نصيب في التغيير المقرر للإقليم. لا مهرب من نتائج وأصداء واستثناءات. والاستثناء في الشرق الأوسط يأتي دائما مرتفقا بقائمة من المبررات. توقعنا مثلاً أن يأتي الحدث في لبنان مراعياً ظروف لبنان الخاصة، وهي بالفعل شديدة الخصوصية. منها، أو أهمها، واقع حب الآخرين له. جاء الفعل صادماً، فأثار عاصفة حب أكثره حقيقي معلن وأقله في النفوس حقيقي كامن.
***
مرة أخرى يتوارى خلف رذاذ الرماد زعماء الطوائف. تصلهم في قلاعهم أصداء الدعوة الغاضبة أحياناً واليائسة دائماً الصادرة من حناجر جف ريقها، أن اذهبوا من فضلكم فربما حل السلام وجاء الرخاء برحيلكم. كنت واحداً من محبين كثيرين لم يبخلوا بنفس الرأي. صدّقنا الشعارات وسايرنا أفكاراً نابعة في غير المكان أو انطلقنا من ثقافات سياسية تحض على إنكار التعددية وتقديس الزعيم الفرد. كلنا، أو أغلبنا، نصبنا الطائفية اللبنانية هدفاً لسهام لا تميز وساحة للسباقات العربية. وفي هذه الساحات نفسها، نصبت سباقات دولية وحين احتجنا أشعلنا فيها حرباً أهلية واحتجنا مرة أخرى فكنا على وشك أن نكررها، لولا أن ساقت الظروف بديلاً أوجز الزمن في لحظة، بديلاً أطاح ببعض بيروت وبعض أهلها وخرجت الطائفية عفية ومتحدية وإن فاقدة بعضاً من ولاء ثمين من جانب شعوب الطوائف. هذه المرة عرف الناس حجم ما بدد من أموال تحصلت باسمهم ولم تصل لهم. عرف الناس أيضاً أن أمراء الطوائف أصابهم ما أصاب أمراء الحرب والإقطاع في الصين ليلة وصل إلى قصورهم تجار الأفيون الأوروبيون.
***
كنت قبل شهور اعتقد أن خطط وأعمال النسف والدمار والحرب في الشرق الأوسط سوف تستمر لفترة غير قصيرة بوتيرة بطيئة وبعنف متراوح الدرجة. ليس بعيداً ما يحدث عما اعتقدت أنا وآخرون أنه سيحدث. المؤكد أن ساحات السباق اتسعت لتسمح لمتسابقين أكثر عدداً. عدت أتشاءم من النشرات الإخبارية برغم الاهتمام المتزايد بأناقة قارئاتها. الآن لا أقارن بين السياسات الخارجية لدول الإقليم ولكن بين ارتباكاتها، وأكثرها خلف أوضاعاً مثيرة وفي الغالب مشوشة. تفاجأت للحظة بدخول بلاد الصومال طرفا في مسلسل التغيير الجاري تصويره في أقصى جنوب الشرق الأوسط. ولكن ما هي إلا لحظة تذكرت في أعقابها أنه في مرحلة سابقة وفي ظل أجواء دولية وإقليمية مختلفة كنت أنا نفسي موجوداً عندما اقترحت مصر السماح للصومال بالانضمام إلى جامعة الدول العربية. لا أحد اهتم وقتها بدولة أرض الصومال بينما راحت دول خارجية مستعينة بدول خليجية تضغط لانضمام جزر القمر. لم تؤرقنا، وأقصد نحن الدول الأعضاء في الجامعة العربية “الطبيعة الخاصة” أو “المصالح الاستثنائية” للدول الإفريقية المرشحة لعضوية الجامعة. لم تؤرقنا كما أرقتنا وما تزال تؤرقنا، ولا أفهم لماذا، الطبيعة الخاصة التي يتمسك بها لبنان منذ جعل الاعتراف العربي بتميزه هذا شرطاً له وليس عليه. المثير في الأمر أن لبنان المتهم في طبيعته الخاصة حافظ على وحدته بينما دول أخرى في الإقليم مهددة بالانفراط بين يوم وليلة أيضاً بسبب طبيعتها الخاصة. هذه الطبيعة الخاصة لا تؤرق ولكن طبيعة لبنان الخاصة تؤرق. كنا نتساءل أحياناً، كيف أفلحت الطائفية اللبنانية في نسج وشائج مع العالم الخارجي والإقليمي والداخلي دعمت بها الكيان اللبناني ولم تفلح قبائل وقوميات في الإقليم في نسج مثيلات لها في كيانات تقيم فيها. صار السؤال هل حقاً أفلحت؟.
***
اقترب من موقع الإجابة على هذا السؤال شخص دأب بحكم تدريبه وخبرته على إصدار أحكامه على كفاءة الدولة مستنداً، مثلنا معشر المحللين، إلى الملاحظة والمراقبة، أضاف إليهما الممارسة العملية واختلاطه الفعلي بأصحاب القرار السياسي في لبنان، وأقصد قادة نظام الطوائف. توصل ناصيف حتي – أستاذ علم السياسة والخبير في الشئون الإقليمية والدولية – مستندا إلى خبرة السنوات في الملاحظة والتحليل ثم تجربة العمل من داخل المنظومة الحاكمة لأيام وإن معدودة، توصل إلى أن لبنان قد يكون على وشك إعلانه دولة فاشلة. لا أحد منا اقترب في أي يوم من هذه النتيجة وأقصد إعلان الفشل، سبقنا إليها واحد منا.
لم تكن التجربة بالنسبة لناصيف حتي الأولى، فقد توصلنا معا إلى نتيجة مماثلة تخص النظام الإقليمي العربي، توصلنا إليها ومنذ كنا معاً شريكين في طليعة بيروقراطية العمل الجماعي العربي، ولم نيأس. حاولنا. لم نترك فرصة أتيحت للإصلاح والتطوير إلا واشتركنا فيها. وللأسف خرجنا كل مرة أقرب إلى قصة الفشل من أي سردية أخرى. كنا نراقب فشل الدول الأعضاء واحدة بعد الأخرى ونرصد معها في الوقت نفسه ترتيبات فشل النظام الإقليمي ومؤسسته العتيدة. رصدنا بالدقة خطوات ابتعاد الدول العربية عن جامعتهم، ناقشنا تداعيات انفراط أواصر كانت تربط قياداتهم بإقليمهم وعقيدتهم. رأينا ولامسنا الانفكاك عن الوطن وعن العروبة وعن الدين وأحيانا عن القرابة والمصاهرة والتاريخ البعيد والقريب. المثير فيما قابلنا. لا فروق كبيرة بين سياسات نظام تحكمه الطوائف وسياسات أنظمة تحكمها مؤسسات دينية أو عسكرية أو قبلية أو مؤسسات فردية. النتيجة صارخة، النظام الإقليمي ينحدر بسرعة نحو إعلان فشله، والدول الأعضاء تنسلخ عنه بدون خجل أو حسرات وتتسابق للارتماء بأحضان نظام إقليمي جديد، أعرف عن هذه الأحضان من كتب التاريخ وسير بعض قادتنا أننا جربناها فتخلفنا قروناً.
***
الصومال واليمن وليبيا مهددة بإعلانها دولا فاشلة. لن يكون لبنان في هذه القائمة. لن يعيش لبنان في ظل نظام آخر غير نظام الطوائف ولكنه يمكن أن يعيش وتزدهر أحواله وأحوال دول حوله لو أن دستور البلاد حرم على قادة الطوائف من رجال ونساء من قطاعات الحكمة والعلم الدخول إلى حلبة السياسة.