طلال سلمان

لبنان صندوقة اقتراع عالم

قبل سنين طويلة كتب صحافي معروف أقحمته النفس الأمَّارة بالسوء في غابة الانتخابات النيابية فقال ما خلاصته:
«إن الحزب الشيوعي قد حاربه، مما يعني أن الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي جميعاً، قاتلوه بأصوات المحازبين والمناصرين فحجبوها عنه، مع أنهم كانوا ـ محلياً ـ من أصدقائه ومشجعيه على مواجهة الإقطاع والرجعية..
«.. وأن حزب الكتائب قد حاربه، مما يعني أن فرنسا قاتلت ضد احتمال فوزه في الانتخابات،
«.. وأن حزب البعث العربي الاشتراكي قد خذله برغم أن المحازبين والمناصرين كانوا دائماً من أصدقائه، مما يعني أن الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تجمع مصر وسوريا تحت قيادة جمال عبد الناصر، قد نزلت إلى الميدان لتمنع نجاحه… المؤكد!
«.. وأن الحزب السوري القومي قد أوعز إلى محازبيه ومناصريه والأصدقاء بمحاربته عن طريق التصويت لبعض منافسيه، مما يعني أن بريطانيا العظمى قد نزلت إلى الميدان لمنع وصوله إلى المجلس النيابي..
«هذا فضلاً عن أن أجهزة الدولة، المخابرات العسكرية والأمن العام وقوى الأمن الداخلي، وسائر موظفي وزارة الداخلية، وبينهم المخاتير ورؤساء الأقلام، قد تمّ تجنيدهم لمحاربته».
ولما كان صاحبنا يرى أن السلطة في لبنان هي نتيجة تفاهم واقعي بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية العربية المتحدة فالاستنتاج المنطقي الذي توصل إليه أن سيوف الأرض جميعاً قد اجتمعت على قتاله ومنعه من الوصول إلى المجلس النيابي باعتباره تجسيداً لروح الثورة وإرادة التغيير!
الصورة كاريكاتورية، بطبيعة الحال، لكن لبنان المفتوح على كل ريح، والذي لكل قوة إقليمية ودولية فيه نصيب، يسمح لكثير من القوى والشخصيات السياسية فيه أن تنظر إلى نفسها كممثلة لقوة عظمى، أو لقوة كبرى، من يخاصمها يخاصم كل من هم معها، ومن يناصرها إنما يعبّر عن حسن قراءته للصراعات الكونية، سياسية وعقائدية وفكرية… بواقعية هي الشرط الإجباري للنجاح!
إذا ما ابتعدنا عن الكاريكاتور سنغرق في المواجع، ومنها:
1 ـ أن لبنان يكاد يكون البلد العربي الوحيد الذي تجري فيه «انتخابات» قريبة، شكلاً، مما يجري في البلاد المصنفة دولاً ديموقراطية: بمعنى أن ثمة لكل مرشح منافساً أو منافسين، وأن «المواطنين» الذين تجيئهم لحظة قدرية يفترضون معها أنهم يستطيعون التعبير عن آرائهم، فيقفون أمام صناديق الاقتراع متزاحمين، وقد يتدافعون، وقد يتبادلون النظر شزراً بعضهم إلى البعض الآخر، وقد يتخاصمون، بل إنهم قد يشتبكون بالأيدي (وأحياناً بالسلاح!) ثم يرجعون إلى بيوتهم ينتظرون إعلان النتائج لكي «يشمتوا» بالخصوم الذين خسروا ـ ديموقراطياً! ـ أو ليذهبوا إلى المخاصمة والقطيعة مع أقرب الناس إليهم إذا ما كانوا هم الخاسرين ـ ديموقراطياً!
2 ـ أن لبنان، بتلاوينه المتعددة، سياسياً وإن بجذور طائفية، أو عقائدياً بجذور مختلفة (ماركسية، اشتراكية، قومية، انعزالية) يمارس هذه اللعبة الانتخابية بما يعبر عن هذه التلاوين، التي ليس مؤكداً أنها ستؤثر في النتائج التي نادراً ما تفاجئ أصحاب الشأن…
هذه التظاهرة الديموقراطية، ولو طعن أهلها في مضمونها، أمر فريد على النطاق العربي، ففي الأقطار العربية عموماً ـ وبالتحديد حيث لا تعتبر الانتخابات كفراً ولا تعتبر الديموقراطية خروجاً على الدين ـ تعلن أو تعرف النتائج قبل إجراء عملية التصويت..
إنها، لبنانياً، نوع من الفولكلور..
ولكنها ـ عربياً ـ حدث فريد من نوعه، يمكن «الفرجة» عليه ولكن تتعذر ممارسته… لهذا يجلس جمهور عريض جداً من المواطنين العرب مسمرين أمام شاشات الفضائيات «يتفرجون» على الديموقراطية اللبنانية، ويتحسرون على مثلها عندهم، حتى ولو كانت شكلية، ولو كان الكلام عنها أكبر بكثير من حقيقتها.
3 ـ أن لبنان بلد عربي في أصله ولكنه «مدوّل» في واقعه السياسي، بمعنى أن لكل دولة فيه نصيباً… ويفاخر معظم المنتسبين إلى الطبقة السياسية «بتحالفاته» العربية أو الإقليمية أو الدولية، بحيث يصبح فوز هذا المرشح فوزاً لتلك الدولة وتأكيداً لنفوذها في وطنه الصغير..
و«الحالة اللبنانية» تغري بعض السفراء أو الوزراء أو وكلاء الوزارات الأجانب من زوار بيروت أو المعتمدين لها بإعلان مواقفهم من الانتخابات صريحة وبغير مداراة للأصول المرعية في «الدول» التي تحترم نفسها واستقلالها،
وهكذا تصير الانتخابات «مدوّلة»، ويصير المرشحون المعنيون أقرب لأن يكونوا «ممثلين لدول» أكثر منهم ممثلين لشعبهم، أو لمن أعطاهم صوته من مواطنيهم..
4 ـ على هذا يمكن المجازفة بالقول إن صندوق الاقتراع في لبنان «مدوّل» بنسبة ما، لكل طرف قوي على مستوى «الإقليم» أو على المستوى الدولي الأوسع، فيه نصيب..
ومع تزايد الانقسام السياسي في لبنان حدة، تجرأت بعض القوى السياسية على إعلان مواقفها التي كانت في الماضي تداري في إعلانها أو تموّهها بالمبالغة في الحديث عن احترامها «سيادة لبنان واستقلاله ونظامه الديموقراطي».
إن بعض دول الغرب تعتبر نفسها راعية هذا النظام الديموقراطي والضامنة له… فإذا ما احتدم الصراع (على المنطقة) مع دول فيها، فما أسهل عقد الصفقات لتأمين النفوذ والمصالح، من فوق رؤوس اللبنانيين ومع جزيل الاحترام لحقهم في الديموقراطية والسيادة والاستقلال إلخ.
هذا فضلاً عن أن بعض دول الغرب تعتبر نفسها راعية للكيان أصلاً، وبالتالي فهي تعتبر أن من واجبها حماية هذا الكيان، بما في ذلك هذا النمط الفريد من الديموقراطية التوافقية ذات التعبيرات الطائفية الفجة،
وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن القرارات الدولية ذات الشأن والصادرة عن مجلس الأمن بقيادته الأميركية، صار لزاماً علينا أن نعترف بشرعية المرشحين باسم القرار 1559 والقرار 1595 ومن ثم القرار 1701 إلى آخر السلسلة من هذه القرارات التي باتت «تنظم» علاقات الدولة اللبنانية بعدوها الإسرائيلي، كما تفرض تنظيم العلاقات الأخوية مع جارها السوري، فضلاً عن أنها تقحم نفسها في إضفاء الشرعية أو رفعها عن كل من يقول بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فيتهم المقاومين بأنهم ميليشيا ويطالب بتجريدها من السلاح أو سوق المنتسبين إليها إلى المحاكمة وطنية أو دولية، إذا تعذرت محاكمتهم حيث تتحصن المقاومة بنفوذها إضـافة إلى السلاح. مؤسف القـول إن لبنان يكاد يكون صندوق اقتراع دولي، وأن للدول فيه من النفــوذ والتأثير أكثر بما لا يقاس من تأثير ناخبيه «الأصليين» (مقيمين ومغتربين!!) أي مواطنيه الذين في كل حملة انتخابية يذهبون إلى الصناديق مساقين بألف سبب آخر غـير ممارسة اللعبة الديموقـراطية.
لكن الحقيقة أن الديموقراطية والطائفية لا تلتقيان.
والحقيقة الأخرى المرة أن النظام الطوائفي طارد للديموقراطية، وجاذب للتدخل الدولي،
على أن الانتخابات كمسرحية فولكلورية، فيها مشاهد مأساوية وفيها أيضاً مشاهد مفـرحة تأخذ إلى الدبكة والمواويل، وتظل بالتالي جذابة، ويلتقي على الإعجــاب بها بل وعلى ممارستــها الطائفيون والطامحون إلى الديموقراطية وأنــصار التدخل الدولي والمعتــرضون عليه إلى حــد مقاومته بالسلاح.
هي ليست طريقاً إلى التغيير، حقاً، ولكنها تشيع مثل هذا الوهم المبهج…
من هنا يقبل عليها «المواطنون» بحماسة، مع وعيهم الكامل بأنها لن تصل بهم إلى حيث يأملون، لكنها تظل ميزة لهم لا تتيسر لغيرهم، فلا بأس من الفرح بوهم الديموقراطية، فذلك أمتع بكثير من الانتباه إلى الحقائق المرة التي تجعل حلم الديموقراطية من المحرمات!

Exit mobile version