بديهي أن يكون لبنان أكثر الدول حذراً واسترابة في المؤتمر الدولي الذي تدعو إليه الإدارة الأميركية تحت العنوان الفلسطيني، هذا إذا ما تم لحظ علاقته بالموضوع، وتمت دعوته إليه، ولو متأخرة، وبشفاعة الراغبين فيه، أو المروّجين لانعقاده بأي ثمن..
خصوصاً أن هذا المؤتمر، إذا ما انعقد، وبالشروط الإسرائيلية المعلنة، وفي ظل المواقف الأميركية المعروفة، لن يكون أكثر من جائزة ترضية تقدم لبعض البعض من الفلسطينيين على حساب قضيتهم وحقوق شعبهم في أرضه، مقابل السكوت العربي العام (حتى لا نقول التواطؤ) عن تدمير العراق، وتفكيك دولته وإشعال نار الفتنة بين أهله بعد تمزيقهم بالدم عناصر وطوائف ومذاهب شتى..
كأنما يُراد مخادعة العرب بالادعاء أن الاحتلال الأميركي للعراق ليس شراً كله، بل إن فيه بعض الخير لهؤلاء العرب بدليل إلزام إسرائيل بشيء من التنازل لشعب فلسطين في أرضه..
(ولعل الإسرائيليين سيعتبرون غداً أن إفراجهم عن سبعة وخمسين أسيراً من أصل أحد عشر ألف أسير فلسطيني، أو أكثر، دليل جديتهم في العمل لتوفير الحل النهائي لمسألة فلسطين، وحسن نيتهم تجاه شركائهم في الدولتين المتجاورتين لشعبين صديقين، بدليل أن أولهما يعانق الآخر حباً… حتى خنقه!).
ومن المصادفات القدرية الموجعة أن المؤتمر العتيد الذي تنوي الإدارة الأميركية عقده تحت العنوان الفلسطيني، إنما تفرضه المصاعب الخطيرة التي تواجه جيش احتلالها في العراق، بكل ما تستولده من مخاطر على دول الجوار ، وهي بغالبيتها كيانات من كرتون، ثم إن الأصولية لا تفتأ تقوى ويتمدد نفوذها الشعبي فيها، نتيجة الأخطاء القاتلة التي ترتكبها حكوماتها التي تفترض أنها لا تستطيع البقاء في السلطة إلا تحت رعاية الإدارة الأميركية ودعمها المفتوح..
… تماماً كما كان عراق صدام حسين قد وفر، بغزوه الكويت، الذريعة للحرب الدولية بالقيادة الأميركية عليه، وبمشاركة عربية رمزية في عديدها ولكنها كانت ضرورية إذ من دونها كان سيتعذر على الجيوش الأجنبية أن تقدم على اجتياح العراق لتحرير الكويت من احتلاله.
والحرب الدولية (الأولى) على العراق أنجبت مؤتمر مدريد، الذي علق عليه العرب آمالاً عريضة في استعادة أراضيهم المحتلة، بعد التمكين لقيام دولة فلسطين على بعض أرضها التاريخية، إلى جانب إسرائيل التي لا يعرف العالم لها حدوداً.
ليس ضرورياً التذكير بأن لا شيء ولا أحد حيث كان في العام 1991: أما الإدارة الأميركية الحالية فليست من الكفاءة والقدرة على ما كانت عليه إدارة الأب … أما الوضع العربي فأكثر هشاشة وتردياً من أن يستطيع الفرض أو رفض المعروض مهما كان بائساً، في حين أن إسرائيل أقوى على العرب مجتمعين مرة أخرى بسبب فرقتهم وتهالكهم على التخلص من أعباء القضية الفلسطينية واحتمالات مواجهة لا يريدونها ولا يستطيعون احتمال فرضها عليهم… وأما أوضاع الفلسطينيين فقد أضيفت سلطتهم الممزقة سلطتين فارغتين من أي معنى، اللهم إلا الفرقة، إلى أسباب عجزهم عن التحرير بالسلاح الذي هجروه (إلا في الفتنة الداخلية)، هذا مع عدم تجاهل التخلي العربي العام عنهم شعباً وقضية وسلطة برأسين فضلاً عن حق العودة الذي صار في منزلة بين منزلتي الأحلام والأوهام.
[ [ [
بالعودة إلى لبنان واحتمالات مشاركته، لا بد من استعادة القاعدة الذهبية التي اعتمدت من قبل: هو آخر من يفاوض وآخر من يوقع على أية تسوية مع إسرائيل التي عاملته بأشد وأقسى ما لديها من أسباب القوة والطاقة على التدمير… وها هم أهل الجنوب، خصوصاً، واللبنانيون عموماً، يحاولون بعد إعادة بناء ما هدمته الحرب الإسرائيلية الثالثة أو الرابعة أو الخامسة (من يهتم بالإحصاءات؟!)…
وإذا كان الأمير سعود الفيصل قد طالب بإرجاء المؤتمر حتى شهر كانون الأول المقبل، في انتظار أن يكون قد قام حكم جديد في لبنان (رئيس للجمهورية وحكومة بمنطق التوافق لا التحدي)، فليست السلطة مطالبة الآن بأي موقف، خصوصاً أنها لا تملك الحصانة اللازمة للقرار، في ظل الخلافات الحادة التي ما زالت تقسم اللبنانيين على الشؤون العادية فكيف بمثل هذا الأمر المصيري.
لقد اشترطت سوريا لمشاركتها أن يكون مطلبها باستعادة أرضها المحتلة أساسياً في جدول أعمال المؤتمر..
وبديهي أن للبنان مطالب تتجاوز استعادة الأرض، خصوصاً أن إسرائيل طالما اتخذت من أرضه حقل رماية، ومن عمرانه وإنسانه أهدافاً حية لطيرانها ومدفعيتها وصواريخها البعيدة المدى..
… من دون أن ننسى الأربعمئة ألف فلسطيني الذين طردهم الاحتلال الإسرائيلي من أرضهم، قبل ستين عاماً، والذين لا تعترف لهم الإدارة الأميركية (قبل إسرائيل) بحق العودة.
وبالتالي فإن للبنان شروطاً قد تكون أخطر من أقطار أخرى لحضور هذا المؤتمر الذي لن يكون أكثر من مكسب دعائي للإدارة الأميركية، ومكسب سياسي لحكومة إسرائيل على حساب فلسطين والعراق والعرب مجتمعين.