من حسن الفطن أن تتم قراءة بيان الحكومة الإسرائيلية حول قرارها الانسحاب من لبنان بتاريخه، أولا…
فتوقيت القرار (وهو ثابت) يكاد يكون أهم من مضمونه الذي قد تختلف قراءاته بحسب درجات الثقة بالديموقراطية الإسرائيلية ومفاعيلها العسكرية (وهذه متحركة)! وكذا بدرجة استعداد إسرائيل، في هذه اللحظة تحديدا، لتلبية الشروط الضرورية لإنجاح »عملية التسوية« (وهذه غير محددة، وغير مضمونة، فضلاً عن كونها لا تجد ما يؤكدها في المسلك الإسرائيلي لا مع الطرف السوري المتهم بالتشدد! ولا مع الطرف الفلسطيني المدموغ بالتنازل)..
لقد أصدرت الحكومة الإسرائيلية قرارها أمس، الأحد في 5 آذار 2000، وبينما لبنان هو »الخبر الأول« وهو موضوع الاهتمام والتعاطف والتضامن العربي، على المستوى الرسمي، الذي تصرف وكأنه يلحق بموجة التأييد بل والاعتزاز العارم على المستوى الشعبي العربي مشرقا ومغربا، ب»لبنان الصمود« وب»مقاومتنا« فيه و»بشعبنا الذي يحمل السلاح بيد ويبني باليد الأخرى«، على حد ما وصف ولي العهد السعودي لبنان واللبنانيين.
لكأن لبنان قد استعاد »شبابه« ووهجه العربي بعد دهر من النسيان أو الضيق بأخباره المقلقة غالبا بل المزعجة، كما كانت تعكس التصرفات والتصريحات الرسمية والهمسات التي لا يطالها التسجيل، خشية أن تخرب »المقاومة« (ومن يقف خلفها!!) عملية التسوية بتصديها لجنود الاحتلال الإسرائيلي فوق الأرض اللبنانية!
}} إذن، في 5 آذار 2000 حوّلت الحكومة الإسرائيلية التعهد الانتخابي لإيهود باراك بالانسحاب من لبنان قبل 7 تموز 2000 (وهو العيد الأول لميلاد حكومته!) الى قرار، وإن كانت قد ربطت هذا القرار بعدد من التحفظات والاستدراكات ومحطات إعادة النظر التي قد تجعله بدوره أشبه بالتعهد الانتخابي الذي يرفض المواعيد المقدسة!
}} أي أن تاريخ القرار الإسرائيلي يأتي: بعد يومين من جولة الأمير عبد الله بن عبد العزيز التي شملت القاهرة ودمشق وبلغت ذروتها السياسية في بيروت بتجاوز تعابير التضامن العاطفية إلى إعلان موقف متميز بشجاعته ووضوحه المبدئي وقاطع في دلالاته السياسية وعنوانها اللقاء العلني مع كتلة نواب »حزب الله«، وهو الأول من نوعه منذ أن انطلقت المقاومة الباسلة قبل حوالى عشرين اما.
}} أي أن هذا القرار الإسرائيلي يأتي: بعد عشرة أيام من الزيارة الحدث للرئيس المصري حسني مبارك، وهي التي تشكل، وبكل المعايير، منعطفا مهماً في سياق الجهد العربي المشترك لمواجهة جنون القوة الإسرائيلي الذي دمر من مرافق لبنان بقدر ما دمر من المعنويات العربية،
كما أن هذه الزيارة تضع حداً لمناورات إيهود باراك التي لا تنتهي، إذ تفضح انكشاف أسلوبه في اللعب على المسارات، ومحاولات »ضرب« كل منها بالآخر، لتعميق الشرخ في الصف العربي واستعداء بعضه على بعضه الآخر ودفع الجميع إلى التنازل وإلا اتهموا بالتطرف أو بالإرهاب كمخربين للعملية السلمية التي ترعاها الولايات المتحدة الأميركية!
}} أي أن هذا القرار الإسرائيلي يأتي: قبل خمسة أيام من الموعد المقرر للاجتماع الوزاري لجامعة الدول العربية، والذي نُقل استثنائيا من القاهرة إلى بيروت، توكيدا للارتفاع بالمساندة والدعم وتعزيز الصمود الى إجماع بالموقف السياسي المحدد في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية التي لم تتوقف يوما ضد لبنان على امتداد السنوات الماضية، قبل باراك ومعه..
}} ثم ان هذا القرار الإسرائيلي يأتي: في ظل اضطراب سياسي واسع داخل إسرائيل بعد إيقاف المفاوضات مع سوريا، واهتزاز التحالف الحكومي نتيجة التذبذب في الاعتراف بوديعة رابين من دون الالتزام بمنطوقها، والقول بالاستعداد المبدئي للانسحاب من هضبة الجولان ثم تقييده بالاستفتاء الشعبي (على 3 نوبات!!)، وكأن احتلالها قد تمّ نتيجة استفتاء، أو كأن عودتها إلى أهلها السوريين تحتاج إلى »تنازل« عن »الملكية« من شاغليها بقوة السلاح الذين استقدموا بالأمس فقط من روسيا وأوكرانيا وسائر أنحاء الأمبراطورية السوفياتية الراحلة.
}} إن تاريخ القرار الإسرائيلي يكشف الهدف الفوري من إصداره، أما مضمونه فمتروك للأيام أن تثبت جدية أو عدم جدية باراك وحكومته في الالتزام به، لا سيما بعد القراءة الثانية المقررة بعد وقت..
لكأن باراك بقرار حكومته هذا، يحاول »إحراق« المجلس الوزاري العربي بسحب الموضوع الأساسي لاجتماعهم من جدول أعمالهم: فماذا سوف يقولون والحكومة الإسرائيلية قد أقرت وبالإجماع تعهد رئيسها الانسحاب من لبنان، باتفاق معه ومع سوريا، أو من دونه، وفي موعد لا ينتظر السابع من تموز بل يسبقه بكثير،
انه استباق للاجتماع وبين استهدافاته إحداث »اشتباك« عربي حول »الاتفاق«، وحول دور سوريا فيه، ثم موقع مثل هذا الاتفاق المحتمل من عملية التسوية.
ولعل أخطر ما تستهدفه المناورة التي صارت الآن قرارا مبدئيا أن تفتح الباب لحديث عنوانه »ان مشكلة لبنان بحكم المنتهية فلنبحث في مشكلات المسار السوري بمعزل عنه«!
ويمكن الترويج هنا لمنطق قد يلجأ إليه بعض »المهرولين« الذين سيستحضرون باراك »المعتدل« في »اجتماع المعتدلين العرب«، خلاصته: حرام أن يستمر استخدام لبنان كورقة من أجل تحسين شروط التفاوض السوري!
}} كذلك فإن تاريخ القرار الإسرائيلي يجيء بينما حكومة باراك تعطل لجنة تفاهم نيسان وتسعى لتعديل منطوق التفاهم ومضمونه (بما يسقطه لانتفاء مبرر وجوده)،
ولعل باراك يأمل أن يتطوع بعض »المهرولين« العرب أيضا إلى الدعوة لتجاوز تفاهم نيسان أو الامتناع عن الحديث فيه طالما أن الانسحاب الإسرائيلي حاصل ومؤكد وحتمي وبالإجماع بعد أسابيع قليلة… ولربما زايد »مهرول« فطالب بالاستغناء عن لجنة التفاهم تأديبا وانتقاما من فرنسا التي تنكّر رئيس حكومتها جوسبان لجميل العرب فأساء إليهم بتصريحه الاستفزازي حول »حزب الله« خلال زيارته إسرائيل!
ان مناورة باراك التي تحولت الآن إلى قرار، يمكن أن تتبدى مع قليل من حسن الفطن وكأنها تستهدف تحقيق ما عجزت عنه ضربات التدمير الإسرائيلية التي استهدفت البنية التحتية في لبنان وعنوانها: الكهرباء!! أو يمكنها أن تكون الوجه الآخر لغارات التدمير، إذ تطمئن العرب »فيعتدلون« ويخففون من تضامنهم حتى لا يتحول إلى »استفزاز« من شأنه إغراء إسرائيل بالعدول عن انسحابها المقرر!! من لبنان قبل 7 تموز، اليوم الذي بات يمثل الآن ويختصر شرف إيهود باراك!
في زحمة هذه القرارات جميعا قد يضيع سهواً أو يضيع قصداً، ان القرار بالانسحاب الإسرائيلي هو نصر تاريخي مجيد للعرب جميعا، عبر »لبنان الصمود« و»مقاومتنا« فيه، وهي المقاومة الباسلة التي تحمّل أعباءها لبنان، شعبا وحكومة، معززا بدعم سوري مفتوح وتعاطف إيراني قوي، وسط تجاهل عربي شبه شامل امتد بامتداد سنوات الحريق والدم والإصرار على هدف التحرير مهما بلغت التضحيات،
ولا أحد يطلب أو يريد من المجلس الوزاري العربي أن ينعقد كحفلة وداع عربية، تتخذ طابع تكريم فقيد عزيز رحل بعدما أنجز مهمته كاملة..
بل لعلنا نطلب ونريد من هذا المجلس أن يشرِّع تحول مقاومة لبنان إلى »مقاومتنا« كما قال ولي العهد السعودي،
بالمقابل فإن المجلس الوزاري ليس »ضيف شرف« على النصر السياسي المؤزر الذي تحقق بفضل المقاومة للبنان ومعه سوريا، بل لعل التئامه في بيروت سيكون الفرصة لتعزيز هذا النهج ودعمه وحمايته بوصفه الطريق الأكرم والأمجد، ثم انه الطريق العملي الوحيد إلى »تسوية مقبولة«، وهي ذروة الطموح في مثل هذا الاجتماع، أو أي اجتماع عربي في الظرف الراهن…
ولعل النصر الذي حققه لبنان المقاوم بجمع المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية فيه، وتحت عنوان صموده، يشكل إضافة نوعية إلى النصر الذي حققه بانتصاره بدمه على السيف الإسرائيلي!