طلال سلمان

لبنان مناقصة اسرائيلية

ليست إسرائيل نمراً من ورق، بالتأكيد.
لكنها ليست بقوتها قدراً، وليست قوتها مطلقة بلا أي قيد،
كذلك فليس حاكمها، كائناً مَن كان، خارق القدرات، متمرداً بلا ضابط على المعطيات والوقائع الصلبة والتوازنات السياسية الدقيقة خصوصاً على حدود التقاطع والتناقض بين المطامع الإسرائيلية والمصالح الدولية وموقع العرب فيها وتأثيرهم عليها، ولو كانوا على ضعفهم العام الراهن.
حتى حماة إسرائيل التاريخيون، وموفِّرو تفوقها الدائم! على مجموع العرب، بالسلاح كما بالإمكانات الاقتصادية، لا يستطيعون أن يتحولوا إلى مجرد مروج لبرنامج المتطرف أو الأكثر تطرفا في الانتخابات الإسرائيلية، بل لعل الانتخابات هي »ساعة الحقيقة« أو يفترض أن تكون سواء في مواجهة الناخبين في الداخل، أم في العلاقة مع الداعم أو الحليف الاستراتيجي أو الراعي الخارجي، أميركياً بالأساس، وغربياً على وجه الإجمال.
ثم إن هؤلاء الحماة أو »الحلفاء« لا يستطيعون، مهما اجتهدوا، أن يبرروا الاحتلال الإسرائيلي، وأن يغطوا سعي المحتل لإدامته، بل ولتأمين سلامة جنوده في مواجهة أصحاب الأرض المحتلة الذين لا بد سيقاومون، والذين لا بد ان تحظى مقاومتهم باحتضان شعبي شامل وبدعم مفتوح من دولتهم المنتقصة السيادة، والتي تسعى لإجلاء المحتل بكل الوسائل المتاحة، وفي طليعتها دعم المقاومة، أقله سياسياً، طالما يتعذر العمل العسكري المباشر.
إن إسرائيل أوائل 1999 هي غير إسرائيل نيسان 1996 وهي غير إسرائيل تموز 1993،
لا يعني ذلك، بالضرورة، أنها أضعف عسكريا، ولكنها بالتأكيد أضعف سياسيا، أو هي بالتحديد أضعف في ذرائعها السياسية: فهي تماطل وتتملص من تنفيذ الاتفاقات التي عقدتها مع »السلطة الفلسطينية«، مع أنها في نظر أكثرية الفلسطينيين خاصة والعرب عامة، »اتفاقات إذعان«،
.. وهي ترفض العودة إلى طاولة المفاوضات مع السوريين ومع اللبنانيين، إضافة الى كونها تناور لاغتيال القرار 425 الخاص بلبنان بدلاً من أن تنفذه بنصه القاطع في وضوحه.
يتصل بذلك أن المقاومة تضرب الاحتلال داخل الأرض اللبنانية، ولا تتعرض للمدنيين أو للمنشآت المدنية في إسرائيل.
لذلك يتهاوى منطق التطرف الإسرائيلي في تبرير استمرار الاحتلال، أو حتى في محاولة تسويق »حقه« بالرد على عمليات مقاومة ينفذها ضحايا الاحتلال ضد جنود الاحتلال، داخل الأرض اللبنانية.
وواضح أن حكومة التطرف الإسرائيلي لا تستطيع بمنطقها الفظ أن تقنع الإسرائيليين أنفسهم، وبرغم جنوحهم العام الواضح نحو أقصى اليمين العنصري، بدوام احتلالها والاستمرار في دفع ضريبة الدم العبثية لحماية مستحيلة.
ربما لهذا يسود إسرائيل في هذه الأيام مناخ »المناقصة« بدلاً من »المزايدة«، وتتبارى حكومة الليكود التي يحتشد فيها عتاة التطرف مع قوى المعارضة المتعددة الجبهات والتي تنتظم في مروحة تلاوين سياسية واسعة، أقلها معتدل فعلاً، ومعظمها لا يقل تعصباً عن نتنياهو أو شارون، في »نفاق« الناخبين وإطلاق الوعود عن قرب الانسحاب من لبنان وإيقاف دوامة الموت المجاني لضباطها (المتميزين) وجنود »النخبة«.
ولقد بلغت »المناقصة« ذروتها بالتسابق على تحديد موعد الانسحاب من الجحيم اللبناني.
وهذا كلام انتخابي رخيص بطبيعة الحال فور انتهاء المنافسة على قيادة »إسرائيل القوية« في السنوات المقبلة.
على أنه لا بد من التسجيل ان قرار الانسحاب من لبنان بات من علائم »القوة« وليس من دلائل الضعف، أقله في الموسم الانتخابي.
إن للصمود قوة تأثير قد تكون في بعض الحالات حاسمة،
ففي ظل الرهان على الانهيار العربي الشامل، وعلى تخلي العرب عن بعضهم البعض وعن أرضهم، وعن فلسطينهم بشكل خاص، يأتي الصمود المعزز بمقاومة ذات كفاءة عالية ومعززة بإيمان راسخ بالأرض وحق إنسانها فيها، ليكشف المهرولين والمنهارين والقابلين بأي شيء، وليقدم النموذج الناجح لموقف سياسي يحظى باحترام العالم وتأييده، إضافة الى استجابته للطموح الوطني إلى التحرير من دون تنازلات تذهب بمعناه.
إن لبنان، بمقاومته ووحدته المعززة بالصمود مع سوريا ووحدة المسار والمصير معها هو موضع اعتزاز للعرب كافة، وهو قدوة تستقطب شبابهم وتدلهم على الطريق الصح.
لقد فرض لبنان نفسه على إسرائيل بقواها السياسية كافة، تنشقّ من حول دوام احتلالها أو خروجها منه، أو تأتلف على قاعدة حماية جنودها من مقاومته الباسلة، كيف ومتى وبأية وسيلة غير السلاح؟!
لقد كشف لبنان »كعب أخيل« في إسرائيل،
كذلك فقد أسقط لبنان معظم ادعاءات إسرائيل التي كانت »مقبولة« عالميا..
وليس أمرا بسيطا أن يكون لبنان قد احتل مثل هذا الموقع المؤثر على الحياة السياسية (والعسكرية) في إسرائيل، وهو موقع كان يمكن أن يتعزز فيصبح حاسما لو أن الوضع الفلسطيني أكثر تماسكا وأكثر التزاما بالصمود، إذا ما تعذرت المقاومة المسلحة، أو الاستمرار في »الانتفاضة« المجيدة التي كان مقدراً لها أن تغيّر كثيراً في خريطة المنطقة لو لم يتم التآمر عليها من الداخل قبل الخارج.
وهذا لا يعني بأي حال تبرئة عرب الهرولة!

Exit mobile version