طلال سلمان

لبنان مهاجم هو اقوى

لولا وهج الدم المقدس المتفتّح بطولات وشهداء على ذرى جبل عامل وسفوحه، ولولا بقية من الذاكرة، لكدنا نفترض أن لبنان هو مَن يحتل أرضا داخل الكيان الاسرائيلي، وهو مَن تغير طائراته الحربية يوميا، فعليا أو وهميا، فتقصف وتقتل وتدمر وتحرق أو تخرق جدار السيادة والاستقلال والحرية والكرامة والصوت، قبل أن »تعود الى قواعدها سالمة«،
مجلس الوزراء الإسرائيلي لا يكاد ينفضّ حتى ينعقد ثانية لمناقشة الانسحاب، وتتوالى التصريحات معلنة التخلي عن الضمانات وإن أصرت على »الترتيبات الأمنية«، شاكية الى العالم »تعنت« لبنان في رفض المنحة الإسرائيلية، قبل أن ينطلق الموفدون الى عواصم القرار في أوروبا وأميركا للمطالبة بتنفيذ القرار 425، توكيدا لمضمون المذكرة الإسرائيلية الى الأمم المتحدة وتمهيدا للتوكيد على أمينها العام بضرورة التفرغ لتحقيق هذه الأمنية الإسرائيلية التي طال انتظارها عشرين عاما كاملة!
المعارضة الإسرائيلية تزايد على الحكومة، فيرد نتنياهو مزايدا على المعارضة »العمالية«، ووزير الدفاع يترك جيشه لعناية الله و»حزبه« اللبناني كي يقود الهجوم الدبلوماسي انطلاقا من فرنسا التي تعاني حكومتها الاشتراكية من تعثر في التوفيق بين الإنكليزية والعربية والعبرية فترطن بلغة غير مفهومة تماما خصوصا وأنها تعبّر عن نفسها بلسانين، إذا تذكّرنا الرئيس »اليميني« جاك شيراك.
إن إسرائيل، الكثيرة الهموم والمشاغل، تتفرغ الآن لحربها الجديدة على الجبهة اللبنانية: تحاول أن تنتزع من لبنان سلاحه القوي، القرار 425، لترتد فتهاجمه به، كما تحاول أن تحرمه من »حليفه« الغربي الأول، فرنسا، فتحاصرها بالمبادرات والتفسيرات والتبريرات والترتيبات والضمانات والمطالبات لتعطلها كمساند لحقه بتحويلها الى وسيط لا يعرف فيمَ يتوسط!!
وكلما سقط لإسرائيل قتيل جديد فوق الأرض اللبنانية المحتلة، رفعت صوتها مطالبة بالتعجيل بتنفيذ القرار 425، وكأن لبنان يرفض إخراج قواته العسكرية من »أرضها« ويصر على احتلاله،
ما تطرحه إسرائيل بسيط للغاية: بدل أن تكون محصورة ومحاصرة، في »الحزام الأمني« أو في »الشريط المحتل«، تريد أن تنقل احتلالها الى الداخل وأن توسعه ليشمل لبنان كله، فيدخل اللبنانيون جميعا »حزامها الأمني«، ويهجمون على المقاومة فيطاردونها حتى يتم »إجلاؤها« وتحرير لبنان منها، ويعود جنرالات إسرائيل الى قصر بعبدا وإلى السهر في مرابع الليل الممتعة وإلى التجول والتعرف وعقد المؤتمرات والندوات في قلب بيروت التي أحرقوها ذات يوم ولم ترفع الأعلام البيضاء!
… وبدل أن يكون لها »جيش« محدَّد ومحدود من العملاء والمرتهنين في الشريط المحتل، تريد أن تضع يدها على الجيش كله، »باستيعابه«، تحت عباءة احتلالها الموسّع الجديد..
وبدل أن يكون »حزب الله« رأس حربة المقاومة الوطنية العربية الإسلامية، يقاتلها باسم لبنان ونيابة عن اللبنانيين والعرب والمسلمين جميعاً، تحوله الى »منظمة إرهابية« معادية للأمن والسلام العالميين ولحقوق الإنسان واقتصاد السوق والنظام العالمي الجديد،
ما أرخصه ثمنا من أجل اعتراف إسرائيل بالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وقرارات الشرعية الدولية!
مع الحرب الأميركية الجديدة على العراق، حاولت إسرائيل أن تبدو في صورة الضحية، فلبست الكمامات الواقية من الغاز، ونزلت إلى الملاجئ، وأطلقت طيرانها الحربي على مدار الساعة، ونصبت شبكتها الأميركية المضادة للصواريخ، وموَّهت مفاعلاتها النووية ومخزونها الهائل من الرؤوس النووية وأسلحة الدمار الشامل، ميكروبات وكيماويات وجراثيم،
لكن التنكّر في ثوب الضحية لم يخف صورة إسرائيل القوية والمتجبّرة والمسلحة حتى أسنانها وهي تطارد الفلسطيني الأعزل وتضيّق عليه وتخرجه من أي سياق تفاوضي، حتى كأقلية قومية،
.. ولا هو موَّه صورة إسرائيل المتعنتة والرافضة أي تفاوض حول احتلالها المستمر والمعزز بالاستيطان في هضبة الجولان السورية، بل والمتنصلة من نتائج المفاوضات في ظل »العملية السلمية« طيبة الذكر، بحجة أن مَن كان يفاوض باسمها قد سقط في الانتخابات (أو برصاص المتطرفين)،
… وهكذا جاءت لعبة لبنان في سياق عملية التنكر نفسه: فهنا يسهل الادعاء أنها تريد الانسحاب فيرفضه اللبنانيون ويظهرون كمن يتمسك باحتلالها خوفا من النتائج الخطرة لتحرير الأرض واستعادة ذلك الجزء من شعبنا المقهور بالاحتلال!
إن إسرائيل تخوض حروبها جميعا في لبنان أو عبره: حربها ضد الفلسطينيين، وحربها ضد السوريين، وحربها ضد مصر الممانعة في فتح الباب للتطبيع، وحربها ضد الذين قاطعوا مؤتمر الدوحة، وحربها ضد الذين رفضوا الانخراط في الحرب الجديدة ضد العراق،
إنها تحاول إرباك هذه العودة المتعثرة والبطيئة والمترددة الى حد أدنى من التضامن العربي،
وتحاول أيضا إرباك الجهد الأوروبي المتنامي والمكتسب مزيدا من المشروعية في محاولته إعادة الروح إلى »العملية السلمية«، خصوصا بعد افتضاح أمر الانشغال الأميركي »بسحاب« كلينتون وعشيقاته، وانشغاله عن مواجهة التطرف الإسرائيلي،
من هنا تركيزها على باريس التي قد تأخذها حماستها للعب دور حيوي في هذه المنطقة المهمة الى خارج المسرح، إذا هي لم تركز »مبادراتها« على الأرض، وبوعي جدي لما يجري على الأرض، ولحقوق أهل الأرض في أرضهم،
ويبقى أن على لبنان أن يثبت أهليته لخوض معركة التحرير، وأن يخرج من شلله الداخلي ومن ارتباكات السلطة واختلاف الاجتهادات، الى المبادرة في شن هجوم مضاد له بعض صفات الحرب المقدسة كالتي تخوضها المقاومة بدمها على الأرض لتطهيرها من رجس الاحتلال،
والمناخ مؤات الآن: فالعرب يتواصلون من جديد، ويتلاقون، ويرفع بعضهم الحرم عن بعضهم الآخر، وتتردد أقوال مسؤولة عن استعداد النظام العراقي للاعتذار عن خطأه الفادح في غزو الكويت،
والأهم ان العرب قد حصدوا مكسبا بالمساهمة في منع الحرب الأميركية ضد العراق، ثم انهم حققوا نصرا دبلوماسيا ممتازا بإحالة قضية لوكربي الى محكمة العدل الدولية، مما يسقط المبرر المفتعل لفرض العقوبات على ليبيا،
إن العرب يخرجون تدريجيا من الصورة التي حوصروا فيها أو فرضت عليهم، صورة »العربي البشع«، مستعيدين صورتهم الأصلية كضحايا،
فشعب ليبيا الطيب والمسالم والمحاصَر منذ ست سنوات أو يزيد، المعزول عن العالم والمنفي من القرن العشرين وأسباب التقدم الإنساني، يعود إلى العالم… وتسقط الذرائع التي استخدمت لمعاقبته بإعادته الى »الجاهلية« حيث ركوب الجمل للتنقل مسموح أما ركوب الطائرات فممنوع، وحيث استيراد النفط من ليبيا مسموح أما بيعها أبسط وسائل التقدم الانساني من الطائرة الى الكومبيوتر فممنوع،
إنها اللحظة المناسبة لكي يستعيد لبنان زمام المبادرة مباشرا حرب تحرير أرضه، بالوسائل الدبلوماسية، وبالاستناد الى الشرعية الدولية مجسدة في القرار 425،
ان الموقف الدفاعي يضره أكثر مما ينفعه، والرد التقليدي وكأن تنفيذ هذا القرار يؤدي الى فتنة داخلية أو إلى قطيعة مع سوريا هو رد مؤذ ومرفوض،
لا بد من الانتقال الى موقع هجومي يتكامل مع تصاعد الجهد القتالي للمقاومة على الأرض، ومع هذه العودة الى التضامن العربي، ولو مترددة..
قد يكون لبنان »حبة العقد«، أو »واسطة العقد« لاستعادة جو الوفاق عربياً،
وقد تكون مواجهة الهجوم الإسرائيلي الجديد مدخلاً منطقياً الى قمة عربية تعيد تجميع ما تفرّق من الحشد ومن الجهد العربي،
فهل تبقى لدى الحكومة من الجهد ومن الوقت ومن التضامن ما يكفي لمثل هذه المهمة الوطنية والقومية الجليلة؟!
لعل وعسى…

Exit mobile version