الحياد.. قصة قديمة، عواقبها وخيمة. لبنان ليس سويسرا. شعبه منحاز دائماً. لا يعرف أن البلد لم يلتئم، ولن. هذا هو لبنان: افتحوا ملفاته، لن تجدوه محايداً. منذ تأسيس “استقلاله”، اتفق بشارة الخوري ورياض الصلح على شعار بسيط جداً، ومستحيل جداً: ” لا للشرق ولا للغرب”. ومنذ ذلك التاريخ التأسيسي ولبنان، نصفه مع الشرق ونصفه مع الغرب، علنا، لا سراً.
هذا هو لبنان. كان من المفترض، حسب الاتفاق والميثاق، أن يكون لبنان، لبنانياً اولاً. لم يكن لبنان لبنانياً من قبل، ولم يصبح لبنانيا في ما بعد. فلبنان ليس شعباً واحداً. شعوبه لا تكتفي بأرضه. تتطلع دائماً إلى خلف الحدود. شعوب تفيض تأييداً او عدوانية.
بعض المحطات مفيد. صحيح أن لبنان بلد صغير، ولكن وظيفته كبيرة، لأنه يستطيع أن يكون لبنانياً قليلاً، وكل شيء خارجياً. انقسم لبنان على مشروع ايزنهاور. اميركا تريد لبنان كله في فلكها. وافق شمعون، ومن معه من المسيحيين، ورفضته القيادات السنية ومن معها من المسلمين. العناد في الانحياز قصف ظهر لبنان، فكانت فتنة العام 1958. نحن منحازون في الاساس. لبنان قد تكوَّن، تكوَّن من شعوب بولاءات طائفية عابرة للحدود. من ذلك الزمن نذكر أن لبنان كان موطئ قدم لنزاع شرق وغرب. اميركا وروسيا. السعودية وعبد الناصر. يومها، كان السنة مع عبد الناصر، وحيطان بيروت الغربية مطروشة بشعارات مضادة، تلعن “الحلف الاسلامي بقيادة السعودية”، طبعاً، الطوائف المسيحية مسيسة بطريقة مضادة، فهي مع الغرب ضد عبد الناصر. فكل عنزة معلقة بكرعوبها.
انفجر لبنان، وكان الحل أن يكون لبنان مع عبد الناصر عربياً، بشرط عدم التدخل الناصري في لبنان. كذبة لم تصمد. ظل السنة ناصريين، واستمر المسيحيون معادين. إنما، من دون غوغاء.
مات عبد الناصر. انتهى عهد فؤاد شهاب. فطلع علينا الحلف الثلاثي الماروني، بقيادة شمعون والجميل واده. وانقسم لبنان في العمق. مع فلسطين والفلسطينيين ام ضدهم. تحركت الفتنة. الحياد لا حياة له. توغل الطرفان النقيضان المبنيان على قواعد طوائفية صارمة، فاندلعت الصدامات في الشارع: مع فلسطين وضدها. لم يكن لبنان الرسمي والشعبي محايداً. وكان ما كان من مقدمات انحيازية طبيعية، بين خنادق مضادة. حلف ضد الفلسطينيين، عربي بصيغة اسلامية سعودية ومن معها، يضاف إلى حلف مسيحي مبرم ضد انتهاك السيادة بالسلاح والعتاد والاعلام.
كاد نصف لبنان أن يصير فلسطينياً، فيما كان النصف الثاني يبحث عن “صديق” يعادي الفلسطينيين ومن معه من مسلمين. استعانوا بعدوين لدودين: سوريا اولاً، واسرائيل دائماً.
سبحان الله. الكلام شيء والسلوك شيء آخر. حياد لبنان اكذوبة بلقاء. انحياز اللبنانيين حقيقة ناصعة. من هم هنا ضد من هم هناك. وسالت دماء كثيرة. تغيرت الجغرافيا تهجير. خطف على الهوية. حضور سوري وليبي وعراقي واردني وسعودي ومصري و… اسرائيلي كذلك. دامت الحرب خمسة عشر عاماً خرج منها لبنان باتفاق الطائف. فماذا حل بالاتفاق؟ انتفى المسلحون، ذوو الارجحية السياسية، المدعومة خارجياً، والمرضي عنها سوريا وأميركيا… انتقوا الصلاحيات فنزعوها من الموارنة والحقوها بالسنة… و”هات حياد” إذا كنت تستطيع.
وكي يتم تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي، وتطهير الجنوب من جماعة لحد، الوليد الشرعي للأحزاب المسيحية، تكفلت قوى المقاومة الوطنية والمقاومة الاسلامية ذلك العبء، الذي انجز مشروعه التحرري في العام 2000.
… وكان ما كان من حكم متأرجح في الزمن السوري. كان اللبنانيون آنذاك يتقنون الاملاء الوارد إليهم من عنجر، فيما المعاندون مبعدون، وحصتهم ملحقة بالطوائف المتعاونة جداً جداً مع سوريا… فمتى كان لبنان محايداً؟ في الزمن السوري كانت السعودية مطنشة، إلى أن اغتيل الحريري. وهذا الاغتيال بدَّل لبنان كليا. سوريا أُخرجت من لبنان. عاد المعاندون من الموارنة. وبدأت حرب “الاخوة الاعداء”. اللبنانيون انتصفوا. اعتصموا في ساحة البرج، وتواجهوا، في حروب كلامية، بلا صدام دموي.
لا مع سوريا كان لبنان محايداً، ولا من دونها كان محايداً. وإذا كانت سوريا قد أُخرجت يومها، فإن إيران كانت تزداد نفوذاً وقوة، بمقدار قوة وانجازات والمقاومة التي هزمت اسرائيل مرتين في ظرف أقل من عشر سنوات.
البطريرك صفير من قبل رفع راية الحياد والاستقلال. لكن لم يكن له ما اراد. انتهت قرنة شهوان وانتهى معها حلم لبنان بحياد منحاز ضد عدو ومع حليف. والبطريرك الراعي، يحاول هذه المرة ايضاً. لكن حساب الحقل ليس كحساب البيدر.
حقائق نتلمسها كل يوم. اصحاب شعار الحياد، منحازون إلى اميركا، التي لا تقيم وزناً لأي مسيحي في لبنان، سياسياً. ومنحازون ضد سوريا ويقاطعونها، ولا يريدون لا الصين ولا ايران… وينادون بالحياد. والخصوم، هم ضد اميركا ومن معها، وضد اسرائيل حتى المواجهة المسلحة. اسرائيل ليست في وارد الخصومة مع الفريق الاميركي. كانت صديقاً لفريق، وقد تصبح حليفاً لفريق آخر.
لماذا هذا هكذا.
انها الطائفية أيها اللبنانيون. انت في لبنان طائفي اولاً، ولبناني اخيراً. اللبنانيون الأقحاح، هم في اكثريتهم أقلية. ولا يعول عليهم. سبب الخلاف على الحياد، هو النزوع الطائفي الآمر. يلزم ألا نصدق هؤلاء ابداً. لبنان منقسم من زمان وسيظل كذلك. فالج لا تعالج.