أطلّ وزراء الخارجية العرب على لبنان، الذين يجيئون للاجتماع فيه تدليلاً على تضامنهم معه، بشعار خاطئ، مع افتراض حسن النية، مؤداه: نحن مع ما يطلبه لبنان، لن نفعل شيئاً ولن نقول شيئا خلاف ما يطلبه لبنان منا!
والشعار خاطئ لأنه يُستخدم في غير موقعه، ثم لأنه يذكِّر بمأساة عربية ما زالت تجرجر أذيالها كان عنوانها الذي تلطى خلفه المسؤولون العرب جميعا من مستوى القمة إلى المستويات القطرية، خلال تعاملهم مع منظمة التحرير ثم مع »السلطة« الفلسطينية، ما مؤداه: نرضى للفلسطينيين ما يرتضونه لأنفسهم، ولن نزايد عليهم وهم أصحاب القضية فنبدو وكأننا ملكيون أكثر من الملك!
الأمر واضح ولا يحتاج إلى شرح أو تفسير: ثمة احتلال إسرائيلي لأرض عربية في لبنان، وثمة مقاومة تبذل دماء مجاهديها من أجل التحرير معززة بالتفاف شعبها وبتبني الحكم لنهجها، وثمة تدمير منهجي وقتل يومي وسياسة أرض محروقة يعتمدها الاحتلال، وثمة تهديدات علنية يرددها المسؤولون الإسرائيليون جميعا، لا فرق بين عسكري ومدني، أو بين متدين وعلماني أو بين يساري ويميني بقتل الأطفال والنساء والكهرباء والأشجار والبيوت جميعا… ومعها أيضا »المصالح السورية في لبنان« عقاباً لدمشق على دعمها لبنان حكما ومقاومة.
لن يستطيع المسؤول اللبناني، مهما بلغت درجة فصاحته، أن يضيف إلى »وضوح« الجريمة الإسرائيلية عبر توصيفها.
لا يتوقف الأمر على البلاغة، وعلى حسن إعداد ورقة العمل اللبنانية ودقتها وشمولها للدلالات الخطرة للاحتلال وللانسحاب بغير انسحاب، وللتعطيل الإسرائيلي لمسيرة »التسوية« المقبولة، بكل ما تتضمنه من تنازلات جوهرية تكاد تلامس المبدأ، نتيجة الواقع العربي المتردي والتطورات أو التحولات الدولية التي جعلت الكون رهينة الهيمنة الأميركية الخ..
يتوقف الأمر على مدى الاستعداد العربي لمواجهة الضغوط والمؤامرات والمناورات الإسرائيلية، ومن ثم التصدي لنتائج ذلك كله مع لبنان وفيه وعبره، وعدم السقوط في فخ الدعاية الإسرائيلية التي تعمّم منطقاً خلاصته: ان حكومة إيهود باراك قد اتخذت قرارها بالانسحاب، وأنها حددت له الموعد النهائي، وأن قوات الاحتلال ستجلو عن الأرض اللبنانية ولكنها تريد ضمانات لما بعد الجلاء، وتريد أن تستوثق أن مجاهدي المقاومة الباسلة لن يطاردوها بنيرانهم إلى ما وراء الحدود!
إن مجرد الأخذ بهذه الادعاءات الإسرائيلية ينسف الهدف أو الأمل المرجو من انعقاد المجلس الوزاري في بيروت، بكل هذا الحشد من وزراء الخارجية فيه.
إن القرار 425 يدخل الآن سنته الثانية والعشرين من عمره المديد، ولم تنفذه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وحين ادعى بنيامين نتنياهو أنه بصدد تنفيذه ثبت للعالم أجمع كذب ادعائه الذي تكشّف عن مناورة رخيصة لإيقاع الفتنة داخل لبنان عبر محاولة الفصل بين المسارين اللبناني والسوري للاستفراد بلبنان وضربه بسوريا، مستندا الى »جو عربي رديء« وإلى مناخ »الهرولة« الذي ساد لفترة وكاد يظهر إسرائيل حمامة سلام وداعية تقدم ورسول حضارة وواحة للديموقراطية الحقة يبخسها العرب قيمتها ويتصرفون معها بمنطق شوفيني وجاهلي!
ثم ان أحداً في لبنان لم يجرّب أن يمنع إسرائيل من الانسحاب، ولم تكن العلة أبدا في المقاومة، فالمقاومة نتيجة للاحتلال وليست سبباً له، وبالتأكيد فإن مجاهديها سيكونون أسعد الناس بجلاء هو في حقيقة أمره لو تمّ واحد من أعظم الانتصارات التي حققها العرب في عصر الهزيمة الداجي، هذا..
إن بين المحاذير أن يناقش بعض العرب بمنطق إسرائيلي،
وبينها أن يضغط بعض العرب بطلب أميركي،
ثم تكون النتيجة أحد أمرين:
1 ان يتهم لبنان بالتصلب والتطرف وإحراج أشقائه الآتين لمساعدته، فلا يُطاع لأنه يطلب ما لا يُستطاع، ويعود العرب من بيروت ولسان حالهم يقول: مجانين هؤلاء اللبنانيون، إنهم متوهمون انهم يستطيعون إلحاق الهزيمة بإسرائيل المتفوقة على مجموع العرب! لقد نصحناهم فلم ينتصحوا فليتحمّلوا النتائج ترافقهم دعواتنا الصالحات الى الله تعالى أن يهديهم سواء السبيل،
2 أو أن يعمد بعض »المهرولين« الى المزايدة اللفظية، إذا لمسوا إصراراً لبنانياً على عدم الوقوع في الفخ الإسرائيلي المنصوب تحت عنوان »الانسحاب« فيحيّون المقاومة أبلغ تحية، شعراً ونثراً، ثم يعتبرون أنهم أدوا قسطهم للعلى ويذهبون إلى النوم!
ماذا يطلب أو يريد لبنان؟!
ليس أكثر من توصيف الواقع بحيث يبنى على الشيء مقتضاه:
أولاً: ان إسرائيل تحتل أرضا عربية، في جنوب لبنان، والمقاومة المجيدة التي تقاتل المحتل هي مقاومة عربية، براياتها وشعاراتها ودماء مجاهديها وبنتائج جهدها المبارك على الأرض.
ثانياً: انه لخطأ سياسي قاتل أن تُبنى السياسة العربية ازاء لبنان على أساس الأخذ »بالتعهد الإسرائيلي« بالانسحاب، ومن ثم التصرف وكأن الانسحاب قد تمّ فعلاً ولا بد من أن يتركز البحث على ما بعده، مما يعني: إبراء ذمة إسرائيل من جرائمها المرتكبة أمس واليوم والتي ستُرتكب غدا، ووضع لبنان في قفص الاتهام بحيث يبدو وكأنه بمقاومته يعطل الانسحاب الإسرائيلي، (ولفترة كان البعض يلمح إلى أن المقاومة هي التي تتحرش بإسرائيل وهي بالتالي المسؤولة عن الخسائر التي يلحقها »الرد« الإسرائيلي على »اعتداءات« المقاومة)!!
ثالثاً: إذا كانت هذه المعركة ضد الاحتلال معركة عربية، والمقاومة مقاومة عربية فلا بد أن يتأكد ذلك بمواقف عملية، سياسية أولاً، ثم مادية.
في هذه الحال لا يجوز أن يُقال للبنان: إذهب أنت وربك فقاتلا، بل لا بد من الدعم والمساندة وتحمّل مسؤولية هذه المقاومة ذات المردود الباهر عربياً.
رابعاً: ان الموقف من لبنان الصمود، والمقاومة فيه، سيعكس نفسه مباشرة على احتمالات التقدم بمشروع »التسوية« المقبولة، فالتضامن مع لبنان هذا هو تضامن مع سوريا أيضا، في مطلبها العادل والطبيعي لاستعادة أرضها المحتلة، وبالتالي فهو يشكل قوة ضغط يُحسب لها حساب، أميركياً في البداية ومن ثم إسرائيلياً، مما يلزم حكومة باراك بالعودة إلى طاولة المفاوضات وتلبية المطلب السوري بحده الأدنى، وهو ما لا يمكن النزول تحته.
وذلك، لو تمّ، يسهل استئناف التفاوض على المسار اللبناني، والتصدي للمشكلات الكبرى الأصلية وأهمها: موضوع اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة، والبحث الجدي في مصير هؤلاء المنثورين في أرض الشتات بغير أمل في مستقبل من أي نوع، والذين لو بقيت مشكلتهم معلّقة يمكن أن تنسف أي »تسوية« قد تُقر مهما بلغ عدد التواقيع التي تحملها!
إن لبنان لا يطلب من العرب إلا ما يريده العرب لأنفسهم،
ولبنان لا يطلب من العرب إلا ما يستطيعون تقديمه مما يتلاءم مع حقوقهم في أرضهم وفي مستقبلهم، ومع قدراتهم واستعداداتهم الفعلية لتبني هذه الأهداف.
إنها معركة عربية بامتياز هذه التي يخوضها لبنان بدمائه، النصر فيها عربي، والهزيمة فيها عربية،
والمقاومة إحدى الطلائع القليلة المتبقية بشارة بغد أفضل وتوكيدا لقدرة الإنسان العربي على الإنجاز،
ولبنان لا يطلب من العرب أكثر من حماية مقاومتهم فيه،
وهو لا يحرجهم بالشعارات المفخمة عن تحرير فلسطين بالقدس الشريف فيها، أو بتدمير إسرائيل قاعدة الصهيونية والمخفر الأمامي للأمبريالية الخ. من شعارات الزمن القديم.
انه لا يريد إلا أن ينصرهم بدمائه فينتصر بهم على هذه القوة العاتية التي ما زالت تهددهم جميعا في كل أرضهم.
ولبنان سيرضى من العرب بما يستطيعون تقديمه، وسيعوّض الباقي بدمائه وبيوت أهله البسطاء، علّه يستنقذ بعض المستقبل العربي المهدد بأن يئده الضعف العربي من قبل أن تطل أنواره البهية!