طلال سلمان

لبنان خائف من نصر واسرائيل تي »تهاجمنا« انسحاب

ليس أكفأ منا، كعرب عموما، وكلبنانيين على وجه الخصوص، في تعظيم الهزيمة وتقزيم الانتصار حتى إضاعته أو امتهانه تماما… ولعلنا قد احترفنا الخسارة حتى أدمناها وهانت علينا نفوسنا فحقّرناها واعتبرنا اننا غير جديرين أو غير مؤهلين لتحقيق النصر، ومن ثم للحفاظ عليه، إذا ما »سقط« علينا فجأة وفي خروج مباغت على القاعدة!
ربما لأننا نعيش خارج السياسة، أو لأننا نعيش خارج المنطق.
ربما لأن علاقتنا بالوطن غير صحية، فهي تنبع من موقع انقسامي تغلب فيه العصبيات العشائرية، الجهوية، الطائفية أكثر مما تصدر عن شعور نبيل بالانتماء الذي لا نقاش فيه، ولا اختلاف حوله بين المختلفين حول النظام أو الحكومة وقانون الانتخاب والدستور الطائف بالطائفيين »يستلهم« منهم معناه المضيع في التفسيرات المتباينة الأغراض والمصالح والمموهة دائما بالمزايدة »الوطنية« ذات الجذر الطائفي الصريح!
ما لنا وللكلام »النظري«، لندخل مباشرة في الموضوع.
والموضوع يتصل بهذه الحالة شبه الهستيرية التي يعيشها اللبنانيون، والتي تكاد تفقدهم القدرة على التمييز ليس بين الصح والخطأ فحسب، بل أساسا بين النصر والهزيمة، فتأخذهم إلى الهلع وتبادل الاتهامات ب»خدمة العدو«، مما يضيع أساس القضية، فضلاً عن مجد النصر ويوفر بالفعل خدمة مجانية للعدو ما كان ليحلم بأن تأتيه على طبق من فضة المناكفات اللبنانية، مزايدة ومناقصة.
إننا ببساطة نكاد نقلب الموقف الراهن من نصر لبناني عربي مؤزر، تحقق بالدم الغالي، إلى ما يشبه النصر الإسرائيلي على لبنان (ومعه سوريا) وسائر العرب.
إننا نكاد نضيع دمنا المسفوح من أجل تحرير أرضنا،
.. ونضيع الفرحة اليتيمة بنصر عزيز طال انتظاره عربياً.
إن الصورة الراهنة للجدل الدائر في لبنان مفزعة لشدة افتراقها عن واقع الحال:
فالشعب الذي أخاف، بمقاومته الباسلة، إسرائيل إلى حد إصابتها بما أسماه قياديوها »لعنة لبنان«، يبدو اليوم وكأنه أسير الخوف من انسحاب عسكر الاحتلال مهزوماً مدحوراً يجرجر اذيال الخيبة، وهذا واقع وليس توصيفاً لغوياً بليغاً لما تشهده الارض اللبنانية المحتلة.
والشعب الذي استطاع، بدماء مجاهديه الابطال، ان يسفح هيبة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر، يعيش حالة من افتقاد اليقين بنفسه، بقدراته الذاتية، وبقدرة مناصريه وحلفائه، والاهم: بقضيته التي اعترف العالم كله بعدالتها.
ان هذا »»اللبنان« الاكبر من واقعه، الغني بتنوعه، المبلبل باختلافات السياسيين فيه التي كثيراً ما جرته الى وهدة المنازعات ذات الطابع الطائفي، قد استطاع ودائماً بارادة الصمود وبوهج دمه المقدس ان يكشف هشاشة »المجتمع« الاسرائيلي وخوفه من المواجهة.
ان هذا البلد الصغير المنتصر على الموت في »الحروب« المتعددة التي عصفت به، باستغلال أو بتفجير انقساماته السياسية ذات الجذر الطائفي، قد ارعب بفتيته الذين لا يخافون الموت طوابير الجنود الاسرائيليين المصفحين في البر والبحر والجو، والذين طالما انتصروا على كل الذين لم يواجهوهم مباشرة والذين سقطوا في كل مواجهة مباشرة، سواء على الحدود المصرية او السورية او داخل فلسطين واخيراً مع لبنان.
ان هذا البلد الضعيف اقتصاداً، المشرذم سياسة، الذي طالما اتُّهم بانه »ملتحق«، قد استطاع بصموده ان يفضح التواطؤ الاميركي الاسرائيلي، وان يسهم في »تحييد« فرنسا بعد انتزاع تقديرها ثم تعاطفها، ومن ثم »تحييد« اوروبا.
وهذا البلد الكبير بحضوره الثقافي والفكري والاجتماعي، دولياً، قد نال احترام العالم كله لصموده وتمسكه بحقه في ارضه.
وهذا البلد الذي طالما حظي بمحبة العرب وعطفهم واعجابهم بحيويته، فعاملوه معاملة الاخ الاصغر او »بنيامين العرب«، قد اسهم اسهاماً تاريخياً في اعادة الاعتبار الى الانسان العربي، كما عزز فيه مشرقاً ومغرباً ثقته بنفسه وبقدرته على المواجهة كل مواجهة واحراز النصر.
ان هذا البلد المنتصر على جبروت القوة الاسرائيلية يبدو كالخائف من انتصاره،
ويبدو وكأن المناورة الاسرائيلية قد سرقت منه وهج انتصاره لتحصره في الزاوية المظلمة للخوف من… قدرته على الفعل!
كان يخاف على القرار الدولي 425 فصار يُظهر الخوف من تطبيقه.
وكان يخاف على مقاومته، فلما اكدت نفسها وقارب انجازها على الاكتمال، بات يخاف من انجازها المكتمل!
وكان يخاف من وحدة المسارين، فلما ثبت له بالدليل الملموس ان مصلحته الذاتية في هذا التلازم مع سوريا، الى حد التوحد في المواجهة، وان وحدة المسارين تخدم هدف التحرير، بات خائفا من »العقاب« لالتزامه بمصلحته الوطنية!
لكأننا من شدة خوفنا من النصر وأسبابه نسعى بأرجلنا الى الهزيمة، وكأنها الملجأ الآمن!
للمناسبة: ليس »حزب الله« هو صاحب النصر، ولا هو »محتكره«.
انه نصر للبنان كله، بشعبه جميعا، بكل انقساماته واختلافاته، ولدولته بكل المشكلات السياسية التي تسببت فيها او ذهبت ضحيتها حكوماته المختلفة.
انه نصر لكل اللبنانيين، فرداً فرداً، في كل منطقة وجهة، في كل مدينة وبلدة وقرية ودسكرة وضاحية.
لا أحد يستطيع ان يدّعي أبوته فينسبه الى نفسه.
ولا أحد يستطيع ان يمنع الآخر (المختلف) من مشاركته فيه.
حتى الذين تحفظوا على شعارات المقاومة، بدءاً باسم الحزب، وانتهاء بالطابع شبه الطائفي للمنتسبين اليها، شركاء في هذا النصر، لأنه اكبر من الطوائف جميعا، ومن الاحزاب جميعا، وهو كالشمس والهواء وكأي قيمة معنوية عظمى: لكل مواطن منه نصيب.
ذلك ان الموقف السياسي، القاطع في وضوحه، هو الاساس في تحويل مناخ الصمود الى قوة عظمى بين تعبيراتها العمل العسكري او »الجهادي«.
ثم ان اللحمة الشعبية هي التي ساندت وما زالت تساند وتحمي وتعزز تلك الطليعة المجاهدة التي مشت الى الشهادة، ايماناً بالله وعدالة القضية، والمشروعية المطلقة لمواجهة السيف بالدم.
إن كل لبناني قد ساهم في صنع هذا النصر المجيد، ودفع بعضاً من ثمنه، دماً أو بيتاً محروقاً أو شجرة أو زرعاً أو موسماً أو نوراً أو استقراراً في حياته، أو ضيقاً في بعض أسباب معيشه.
إن مئات الألوف الذين فرض عليهم التهجير مرارا، حتى باتوا يحفظون »تقاليده« عن ظهر قلب،
ومئات الألوف الذين عاشوا وما زالوا يعيشون في قلب الخوف ولا يهجرون أرضهم، ويرجعون بعد ليل القصف والتدمير كما الصباح إلى مواجهة العدو في عينيه،
إن آلاف الأطفال الذين تذوقوا مرارة اليتم والرعب والتشرد والهرب من مدارسهم بعدما باتت أهدافاً عسكرية للقذائف الإسرائيلية،
إن آلاف الأرامل، ومئات آلاف الزوجات والشقيقات والبنات اللواتي سهرن الليالي يعملن في حياكة الكنزات أو خياطة الأثواب، واللواتي كن يزغردن في وداع كل شهيد، ويغنين للأبطال المنتصرين وهم يحققون فوزاً جديداً على العدو،
إن كل هؤلاء شركاء في النصر الذي يُراد الآن تحويله إلى مصدر للخوف، بعدما عجز أصحاب الأغراض عن تحويله إلى سبب للفتنة!
فلنكن في مستوى النصر،
ولنمتنع عن السير بأقدامنا إلى الخديعة الإسرائيلية التي تريد أن تسرق منا أعز نصر حققه المواطن العربي بدمه في تاريخه الحديث.
ليس الانسحاب نصرا لإسرائيل، بل هو نصر لبناني وعربي بهي.
ليس تنفيذ القرار 425 نصراً لإسرائيل، بل هو هزيمة مدوية لها، وهي التي امتنعت عن تنفيذه طوال 22 سنة طويلة، لم ترفعه رايةَ انتصار بل اضطراراً بعدما عجزت عن وأده، نتيجة المقاومة، وبفضل الدماء الغزيرة التي بذلها اللبنانيون، داخل صفوف المقاومة أو خارجها.
فلنمتنع عن التصرف بذعر المهزومين.
فلنحم شرف الانتصار بأن نؤكد جدارتنا به!

Exit mobile version