لبنان، وإن غاب، هو طرف أصيل في هذه الحركة السياسية النشطة التي تقوم بها دمشق هذه الأيام على امتداد الوطن العربي لاستنقاذ الحد الأدنى من التضامن الذي كان قد تحقق »بفضل« اجتياح التطرف الإسرائيلي، مركز القرار في تل أبيب، والذي يكاد يذهب به الآن تمدّد هذا الاجتياح إلى مركز القرار في واشنطن متكئاً على »اتفاق الخليل«.
فمهمة عبد الحليم خدام وفاروق الشرع في العواصم العربية التي زاراها، أو في التي سيقصدانها غداً، أقرب إلى »التجريدة« منها إلى المطالبة بحفظ العهد، أو بالوفاء بالوعود المقطوعة، عدا عن موجبات الأخوة.
إن المسؤولَين السوريين الكبيرين، نائب الرئيس ومعه وزير الخارجية، يطلقان جرس الإنذار ملعلعاً: إذا لم يوفر العرب الحماية الكافية لآخر مواقع الصمود فإن الإعصار الذي يعلن عن نفسه كل ساعة باللسانين العبري والأميركي سيكون كاسحاً، ولن يتوقف للتفريق أو للتمييز بين »معتدل« و»متطرف«، أو بين »متشدد« ومتبرع بالتوقيع بغير طلب.
لم يعد الوقت العربي يتسع لكل هذا الترف: حديث عن شروط السلام بعد وضع البصمة على صك الاستسلام بغير شروط.
لم يعد من مجال للحديث بمنطق »نعطي إسرائيل ما يطمئنها، فنأخذ من واشنطن ما يطمئننا إلى غدنا..«.
لم يعد مقبولاً أن نفتح سفارة، أو مكتب تمثيل لإسرائيل، أو نفتح معها خطاً مباشراً للطيران، أو نشتري منها تجهيزات أمنية لحماية السلاطين، بذريعة أن ذلك قد »يغريها« بفوائد السلام العربي ونعمه التي تنهال عليها من قبل أن تطلبها، وربما قبل أن تستعد لها، فتربكها..
كذلك، آن أن يسقط ذلك المنطق المتهافت الذي يتلطى وراء التهالك الفلسطيني ليقول بداية: »نرضى للفلسطينيين ما يرتضونه لأنفسهم«، تمهيداً لأن ينتهي إلى رفع الصوت باللوم: »يا أخي لماذا تتعنّتون؟! إن صاحب الحق الأصلي قد وقَّع وخرج من الصراع، فلماذا تريدون منا أن نكون ملكيين أكثر من الملك؟! ولماذا تطلبون منا أن نستمر في حرب انتهت فعلاً وأُعلنت نتائجها وقُضي الأمر؟! أقصى ما يمكننا الآن أن نقنع الإسرائيليين بأن مصلحتهم تقضي بأن يحسِّنوا شروط سلامهم معكم، في سوريا ولبنان، ولكن ليس قبل أن تسحبوا السلاح من أيدي تلك الزمرة المتطرفة التي زرعتها وتحرّكها إيران لتخريب عملية السلام..«.
إن لبنان طرف أصيل، وهو في بعض المناقشات قد يصبح هو »الموضوع«، ليس بحقه في أرضه المحتلة، ولكن بمقاومته الباسلة العاملة لتحرير هذه الأرض مع تعذر الوسائل السلمية الكفيلة بتحقيق هذه المهمة.
لكن لبنان الرسمي مشغول بأمور كثيرة تأخذه بعيداً عن »التجريدة« السورية وعن استهدافاتها، واستطراداً عن نتائجها المأمولة أو المحتملة.
هو مشغول يوماً بالإعلان الرسمي عن وفاة الترويكا.
وهو مشغول، يوماً آخر، بالتبشير بعودة الروح إلى المؤسسات التي نادراً ما تعرَّف إليها وهي تمارس أدوارها »الشرعية«،
ثم أنه مشغول، في يوم ثالث، بانفجار الفرح العظيم بانبعاث »الترويكا« من رماد الرئاسات الثلاث، على طريقة طائر الفينيق الذي لا يترك له اللبنانيون وقتاً للاهتمام بالشعوب الأخرى، إذ يحرقونه ألف مرة في اليوم ليتفرجوا على انبعاثه من رماده كرة أخرى.
والرئاسات في لبنان، وعلى مثالها المؤسسات، تلجأ إلى السلاح السري الفتاك: التعليق اليومي على الأحداث.
فنشرات الأخبار في محطات التلفزيون جميعاً، »الرسمية« منها و»غير الرسمية«، وفي الصحف عموماً، »المعارضة« منها والمبتعدة عن شر المعارضات، ليست أكثر من آراء متسرعة، حمقاء غالباً ومبتسرة أحياناً، وخارج الموضوع في أحيان أخرى، وغبية في بعض الحالات، وخبيثة في حالات أخرى، حول »المخاطر الإقليمية الداهمة« و»التطورات المفاجئة التي نجمت عن التطرّف الإسرائيلي فهدّدت العملية السلمية أو جمَّدتها«، و»الأمل أن يحقق كلينتون الثاني ما قصّر فيه كلينتون الأول، فيهزم نتنياهو وينتصر للحق… إن الباطل كان زهوقاً«.
إن لبنان طرف أصيل في هذه الحركة السورية النشطة لمنع انهيار أوسع في الموقف العربي.
ولكن، أين هو لبنان؟!
أين لبنان في لبنان بداية؟!
إن لبنان الغائب عن نفسه في الداخل، المشغولة »قيادته« بمباذلها وصراعاتها على المنافع والصفقات واستثمار الفساد وحمايته، لن يستطيع أن يكون حاضراً في الخارج،
جلَّ ما هو حاضر من لبنان، عربياً، الآن هو خيام الهنا الرمضانية، بحسناواتها المتلفزة، والمسابقة »العلمية« الفذة التي تعيد توزيع الثروة بتخصيص جوائز للأذكياء من أبناء الفقراء الذين يسكنون داخل تلك اللعبة السحرية طيلة اليوم، لكي يسبقوا إلى اللعب فيربحوا ولا يخسرون… أيضاً وأيضاً؟!
أين هو لبنان؟!
وهل توفي مع إعلان وفاة الترويكا،
أم تراه ينتظر التثبّت من وفاتها ليكون فيقوم بدوره… المفتقَد؟!