صار مشروعù، وإن لم يكن »شرعيù« أن يُخاطَب البطريرك الماروني أو مفتي الجمهورية أو رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، أو شيخ عقول الدروز، وكذا سائر البطاركة والمراجع الطائفية أو المذهبية الأخرى، بألقاب مثل »سيدنا الرفيق الأمين العام«، أو »نيافة حضرة الرئيس«، أو »سماحة الأخ القائد« أو حتى »غبطة صاحب الدولة«،
لقد احتلّ أصحاب العمائم والقلنسوات مكان أصحاب النظريات أو مكان أصحاب الدولة، بل لعلّهم قد احتلوا المكانين (والمكانتين؟!) معù…
فبينما تلتهم أيامنا الثرثرة حول التمديد أو التجديد، التعديل بفقرة أو فقرتين، تجريب المجرِّب، أو التجدّد بالمستجدّ، تتهاوى »الجمهورية الثانية« بمؤسساتها جميعù مخلية مساحة إضافية للمرجعيات الدينية والطائفية كي تتصدَّر لقيادة العباد و… البلاد؟!
ففي »عظة الأحد« التي يطلقها البطريرك الماروني وتنقلها وسائل الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب، كما في خطب الجمعة التي تستقطب المزيد من المؤمنين إلى المساجد، قبل أن تعمّمها وسائل الاعلام ذاتها على الناس عمومù في الوطن والمهاجر البعيدة، يعلن كلام خطير يلقى من الاستجابة ويحدث من الصدى وردود الفعل أكثر مما تلقى الخطب الرئاسية أو البيانات الدورية لمجلس الوزراء، متى انعقد!!
ثم هناك »التقرير الشهري« الذي يصدره مجلس المطارنة عن »حال الأمة«، والذي يكاد بتراكمه يشكّل برنامجù متكاملاً للحكم،
هذا من غير أن ننسى البيانات غير المنتظمة التي تصدر عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، والتصريحات أو الأحاديث الصحافية التفصيلية التي يدلي بها بين الحين والآخر مرجع مهاب كالسيد محمد حسين فضل ا”، والتي ترسم من خلال المعارضة والنقد غالبù إطارù للبرنامج البديل للحكم.
في البدء، أي بعد الحرب مباشرة، حلّت المرجعيات الدينية والطائفية، وإلى حد كبير، محل الأحزاب التي تطأفت فصارت ميليشيات وكان لا بد أن »يغيّبها« إفلاسها المعلن من قبل أن يجيء السلام الأهلي فيستوعب الأحزاب بينما تستوعبه الميليشيات،
ثم تقدمت هذه المرجعيات الدينية ببطء، ولكن بمنهجية صارمة، لتحلّ محل المرجعيات »الشرعية«، أي الحكم، مع تعاظم إفلاسه، ودائمù من موقع المعارضة والاعتراض وإدانة النهج القائم!
ومن يدقّق في البيانات الأخيرة الصادرة عن بعض هذه المرجعيات الدينية يكاد يتوهَّم للحظة أنها صادرة عن المكتب السياسي للحزب الشيوعي، مثلاً، أو أنها »مراجعة نقدية« صادرة عن رئيس الجمهورية، أو عن رئيس المجلس النيابي، أو عن رئيس الحكومة.
تكفي نظرة سريعة على البيان الأخير الصادر أمس عن مجلس المطارنة لتتوضّح الصورة..
يقول البيان الذي يشي نصه بأن كاتبه »خريج« تنظيم سياسي عقائدي عريق:
»إن الطريقة التي أثير فيها موضوع ولاية رئيس الجمهورية قبل نهايتها بنحو السنة لا تدل على جدية في التعاطي السياسي، وكأن المقصود من ذلك صرف النظر عن القضايا التي تستأثر باهتمام المواطنين من مثل الأزمة الاقتصادية الخانقة وبين أسبابها الهدر، والاضرابات التي تهدّد بها قطاعات كبيرة من المجتمع اللبناني كالعمال والمعلمين، والعجز المالي الظاهر في موازنة نصفها ديون تأكل فوائدها نصف الدخل القومي، وفساد الادارة والإمعان في إضفاء طابع المذهبية عليها، فضلاً عن قضايا التجنّس والتوطين وطغيان اليد العاملة غير اللبنانية على اليد العاملة اللبنانية وتكليف المواطن العادي دفع ضرائب يعجز عنها…«.
كان ممكنù أن يختم البيان بجملة خالدة من نوع: »يا عمال العالم اتحدوا«! أو »إلى السلاح أيها المحرومون«!!
وكان ممكنù أن يحظى بتواقيع معظم السياسيين (خارج الحكم)، والنقابات والروابط وخبراء الاقتصاد المستنيرين وغير المرتهنين،
ولا اعتراض على التشخيص، خصوصù وأنه صحيح بمجمله…
لكن السؤال يتخذ صيغة مناسبة مثل: ماذا تبقّى للسياسيين من قول، ناهيك بالعمل؟!
أو: هل يحاول »الرفاق« المطارنة أن يعوِّضوا غياب الرفاق الحزبيين، أو غياب أصحاب الدولة وسائر المعلَن إفلاسهم قبل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها؟!
ثم: هل هم يستطيعون؟!
إنه كلام قيادة سياسية حتى لو كان قائله يرتدي الجبة والقلنسوة، سيما وأن الكثير من الناس باتوا يتعاملون مع هذه المرجعيات وكأنها »القيادة« الفعلية إن لم يكن لليوم فللغد..
إن صعود المرجعيات الدينية إنما يتم نتيجة لتهاوي »أصحاب الدولة« ولضمور أدوار مؤسساتها الشرعية، بعدما صادرتها »نقابة الرؤساء«.
على أن الوجه الآخر للمسألة أن هذه المرجعيات هي أيضù عاجزة عن إنجاز مثل هذه المهمات، لو أنها تسلّمت الحكم،
وهكذا يغدو المواطن محاصرù بين مؤسستين عاجزتين: إحداهما تدعي ولا تنجز وتستمر لعدم توفّر البديل، والثانية تدعو ولا تقدر وتفيد من حصانتها لإسقاط حصانة »الحكم المدني« برمته.
المبارزة بين ثانيين..
… ولأن الشيء بالشيء يذكر، لا بد من ملاحظات سريعة جدù على »مناظرة الثلاثاء« بين المرشحين المتقدمين لانتخابات الرئاسة الفرنسية:
1 مع أن الرجلين ليسا من فئة »القادة« أو »التاريخيين« أو أصحاب الرؤى الخارقة، فقد بدا كل من ليونيل جوسبان وجاك شيراك عارفين بتفاصيل بلادهما، وتفاصيل التفاصيل من حياة مواطنيهما وهمومهم، بحيث يمكن فعلاً لأي منهما الادعاء أنه يعرف كيف يعالج مشكلاتها.
2 لم يكن الخلاف »العقائدي« أكثر من إطار عريض، لكن فرنسا، الفرنسيات والفرنسيين، فرص العمل، شروط السكن، الضمانات الاجتماعية والضرائب، البطالة والطلاق، كل ذلك كان بين موضوعات »المبارزة« ومن منطلق »فرنسي« أولاً وأخيرù، حتى عند الحديث عن أوروبا الموحدة.
لم يغرقا في التنظير. لم يهربا إلى التعابير العمومية والغامضة والتي قد تعني الشيء ونقيضه. وظل الرقم هو الحاضر الأكبر… وبالتالي كان الخطاب موجهù إلى العقل وإلى المصلحة الحسية المباشرة.
3 جاك شيراك مثل ليونيل جوسبان: هو نموذج للرجل الثاني.
الأول يرفع، كلما أعوزته الحجة، صورة »البطل الوطني« لفرنسا الجنرال ديغول، والثاني يحاول التلطيف من »يساريته« بإثبات ما اقتبسه اليمين من تلك الاشتراكية التي خرجت من صلب الشيوعية ولكن لتلغيها.
كلاهما هو »الرجل الثاني«.
لك أن تتخيّل، إذù، مرتبة »رجالنا« أصحاب المقامات العالية الذين يتعاركون على القمة الوهمية بينما اللبنانيون واللبنانيات يغوصون أعمق فأعمق في دياجير همومهم المعيشية (والمصيرية) المتروكة بلا حلول.
4 على أن الأهم هو ما يثبته التقليد نفسه: من أن الديموقراطية نتاج شرعي وأصيل للحضارة والتحضّر، بقدر ما هي الدكتاتورية التي تقوم على رفض الآخرين وعدم الاعتراف بهم واحتقار آرائهم من قبل أن تُسمع، نتاج شرعي للتخلّف والجهالة والجاهلية والغربة عن العصر.
5 وملحوظة أخيرة: ربما بات »اليسار« عمومù، بالاشتراكية فيه والشيوعية، تهمة خطيرة يهرب منها المشبوهون بالانتماء إليه، لكن »اليمين« لم يصبح شرفù يدعيه أصحابه.
ما رأي أصحاب الغبطة والسماحة والرفاق الأمناء العامين بالمبارزة بين صاحبي الدولة؟