يكاد يأخذ بك الزهو، وأنت في الخليج العربي، محاطù بالحفاوة والتقدير لأنك آتٍ من البلد الصغير الذي يكبرُ به الآن العرب جميعù.
»لقد أعدتم مجد بور سعيد الباسلة. لقد أحييتم فينا الأمل بعد يأس مدمر. لقد رفعتم رؤوسنا المنكّسة بعار المهرولين إلى الاستسلام. لقد أعدتم الاعتبار إلى المواطن العربي. لقد أعدتم الاعتبار إلى القيم والكلمات الأماني التي تعدل العمر، والتي كانت استهلكت وابتذلت وأفرغت من المعنى..«.
لقد وُلد لبنان جديد، خارج حدوده كما وُلد لبنان من جديد في الداخل.
صار اسم لبنان كالتعويذة، كالرجاء، كالصلاة.
كان هناك »اللبناني« يغيِّب لبنان أكثر مما يستحضره.
فاللبناني، الفرد، يطغى بحضوره، بحيويته، بذكائه، بشطارته، فيبدو كأنه أكبر من بلده، الجميل الجريح، الجسر الساحة، المقتتِل والمقاتل والمقتول، الوسيط والواسطة إلا في شؤون حاضره ومستقبله.
أما لبنان »الدولة«، ولبنان »الشعب« فقد كانا مغيبين.
»اللبناني« أهم من جمهوريته بنظامها الفريد الذي تغلب عليه الطرافة والبدع الفولكلورية والمبتكرات الاستثنائية، فتهزل برلمانياتها من دون أن تضمحل ديموقراطيتها، وتتصاعد أمواج الهياج الطائفي من دون أن يسقط حق الاختلاف في الرأي ومن دون أن يفرِّط الأقوى بوجود خصمه ولو ضعيفù.
ومع أن »اللبناني« ما زال »مفردù« وليس لاجتماع أعداد كبيرة من اللبنانيين حاصل جمع يوحِّدهم ويتجاوز بهم صراع الطوائف وقياداتها الزمنية والروحية (التي لديها القدرة على استهلاك الأزمان والأرواح معù)…
ومع ذلك فقد وُلد لبنان جديد وزهَّرت صورته في عيون العرب كبلد وكشعب، وليس كأفراد يعملون في أي مجال وينجحون في كل مجال ويتفقون مع كل الآخرين ويختلفون بعضهم مع البعض الآخر.
يا لمجد قانا والشهداء!
كل لبنان موسوم الآن بشرف الشهادة، وبشرف الصمود أمام آلة الحرب الإسرائيلية الأميركية التي لا حدود لطاقتها التدميرية.
وكل العرب كانوا في قانا: أطفالهم أولئك الذين تناثرت أشلاؤهم مع الشمس والريح أو انزرعت في تراب الأرض العربية من المحيط إلى الخليج، نساؤهم هنّ الثكالى الآن، ورجالهم يكادون يخجلون برجولتهم لأنهم لم يكونوا هناك..
لكم تبدلت صورة لبنان: إن لها من القوة الآن ما أعاد إسرائيل إلى صورتها الأصلية، فهي العدو بالمطلق، والعدو للجميع، بمن فيهم أولئك الذين هرولوا إلى التوقيع أو هرولوا يتبرعون بتواقيعهم من قبل أن تطلب منهم.
يا لمجد قانا والشهداء،
لقد اقتحمت الدماء الطاهرة المساجد ورشها الأئمة على المصلين فخرجوا يطلبون.. حكّامهم!
غطت الساحات والشوارع وحاصرت القصور والألقاب المفخمة،
غطت الأثير فإذا برامج الاذاعات والتلفزيونات تغادر تقليديتها لتستنفر الناس فتوقظهم وتخرجهم من سبات الأوهام وأضاليل السلام الأميركي الإسرائيلي.
غطت الصحف بالكلام المهجور والمنسي عن العدو القومي وقتلة الأطفال وعن الأميركي البشع، فإذا »عاصفة الصحراء« تعود إلى الأذهان بصور المستفيدين منها وأهدافها الخبيثة.
لقد عادت الأسئلة تدوي عبر الفيافي والوديان والصحارى والمدن التي أقيمت على عجل فوق الرمال المتحركة أو المحركة بفعل فاعل.
تسمع الأحاديث والتعليقات فتطرب لإيقاعها: إن أقلها عن لبنان وجلّها عن الأنظمة المتخاذلة، عن الحكّام الخارجين على إرادة شعوبهم، عن تواطؤ أصحاب السلطان مع العدو لتأمين مصالحهم واستمرار عروشهم.
لكأنما دقت ساعة الحقيقة؟!
وتسمع من بعض المسؤولين دفاعù يصلح كحيثيات للادانة أكثر مما ينفع في التبرير أو الإعذار:
» وا”، كنت أتمنى لو استطعت الذهاب لأكون معكم، ولكن الشكليات الرسمية عقّدت الأمر عليَّ… كدت أخلع ملابسي ولقبي وأذهب، لكنني خفت من الإحراج فامتنعت..«.
لا يحتاج الأمر إلى ذكاء لتكتشف أن المعني بالحرج هو صاحب السلطان هناك..
* * *
ليست هي الثورة، لكن الواقع الذي كان سائدù وثابتù ومحصنù قد اهتز بعنف، ولا يمكن أن تعود الأمور إلى سيرتها الأولى.
فالخطورة أن لبنان هو القدوة وليس القائد،
الخطورة أن »المواطن« في لبنان قد أثبت حضوره فطرح التحدي على »المواطن«، كل »مواطن« عربي في كل بلد عربي: لماذا لا يكون لي دور مثله؟! لماذا يغيب موقفي فلا يبقى إلا موقف حاكمي الذي لا أقره ولا يعبّر عن ضميري ولا عن مصالحي؟!
ثم إن التجربة الآن في نيسان 1996 جاءت مختلفة عنها في تموز 1993: يومها بدا الحكم منقسمù ومختلفù، وغيَّب نفسه أو ارتضى أن يغيَّب حتى لا يتحمَّل أو يُحمَّل مسؤولية المقاومة ممثلة بمجاهدي »حزب ا”« ومَن معهم…
أما هذه المرة فقد تبدّى لبنان في أعظم تجلياته: واحدù، مؤتلفù، موحد الموقف، على المستوى الشعبي كما على المستوى الرسمي، ولم تكن ثمة فجوة بين الحكم والمقاومة يمكن أن ينفذ منها المراهنون الأقوياء على الانقسام وفيهم الولايات المتحدة الأميركية إضافة إلى إسرائيل.
* * *
»كلنا حزب ا”«…
هذا الشعار الآن تتردد أصداؤه على امتداد الجزيرة العربية بخليجها ويمنها والمملكة التي كانت ترفض أي ذكر له.
سقطت كل الأكاذيب عن »الإرهاب« و»الإرهابيين« وعن »التنظيم الإيراني« وعن »التطرف الشيعي«.
ل»حزب ا”« الآن صورة المجاهدين الذائدين عن الحق العربي وعن شرف الإسلام والمسلمين،
تهاوت كل الحساسيات المتولدة عن الخلاف أو الاختلاف مع »حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران«، وتنبّه كثيرون إلى أن بعض الحجم الأسطوري الذي أُعطي للنفوذ الإيراني في لبنان إنما يعود إلى الغياب العربي وإلى التنصل العربي من دعم المقاومة في لبنان والتذرع بأن »حزب ا”« ليس إلا واجهة للإرهاب الإيراني الموجه ضد الجزيرة والخليج أو مجرد أداة له.
وتسمع مَن يصارحك: » نحن المخطئون، لقد جبنَّا فتخلينا عن شرف دعم المقاومة للإيراني، وليس من حقنا الآن أن نسائله أو أن نسائل »حزب ا”«… الدم أفصح من أي منطق سوي فكيف إذا كان مُغرضù؟!«.
* * *
لبنان اليوم أكبر مما كان في أي يوم،
وصورة لبنان اليوم نقية مطهرة بدم الشهادة،
ورصيد لبنان الوطن، لبنان الدولة، لبنان الشعب مرتفع كما لم يكن في تاريخه.
لقد أضيف إلى الإعجاب بالمهارة والشطارة والحيوية التقدير للصمود العظيم، للقدرة على المجابهة والتصدي، للطاقة الهائلة على الاحتمال، للسرعة الفائقة بل المذهلة في عودة النازحين والمباشرة في إعادة بناء ما تهدم،
وإذا كان العرب بمجملهم يعانون من عقدة ذنب أساسها التقصير ازاء لبنان واللبنانيين، فإن أهل الجزيرة والخليج يعانون من عقدة إضافية: إنهم قادرون على المساعدة المؤثرة ويمتنعون،
ففقراء العرب معذورون بجوعهم وضائقتهم،
أما أهل الجزيرة والخليج فإحساسهم بتقصيرهم معلن،
وربما نجحت سياسة صريحة وشجاعة في المواجهة مع تدليل على نزاهة الإنفاق في إعادة الإعمار، على دفعهم إلى التلبية والتكفير عن تقصيرهم السابق وعن غيابهم شبه الدائم والذي بات الآن موضع مساءلة في أقطارهم.
المهم أن تُدار المعركة الجديدة بكفاءة فيها روح المقاومة التي منحت لبنان ولادته الجديدة وشرَّفته بهذا الإعزاز العربي الذي رفعه إلى مرتبة »القدوة« وجعله مثلاً يُحتذى.
المهم أن يأتي تصرف الحكم فيه الآن، في مستوى يليق بِكِبرِه في عيون أهله العرب.