عاش جيلي في فلسطين التي لم ير منها إلا خريطتها وصور «المجاهدين» وهم يتأهبون للذهاب إليها في تظاهرات لا تغيّب الحماسة الارتجال فيها، ثم يعودون منها ـ إذا ما عادوا ـ وقد هدّهم اليأس.
لم تكن وسائل الاتصال تسمح لنا بأن نعرف ما يحصل فيها، ولكننا كنا نقرأ النتائج في طوابير اللاجئين الآتين من الأرض المقدسة وقد هاموا على وجوههم يبحثون عن ملجأ. وكنا نحشر أنفسنا، في سهرات الأهل كفتية لا نفقه شيئاً في السياسة لكننا نفهم من دموع أمهاتنا وصيحات آبائنا وهم يحاولون أن يعرفوا ما يستطيعون أن يقدموه وكيف يمكن أن يصلوا إلى فلسطين، ومن يستطيع أن يؤمّن لهم السلاح والطريق.. كذلك كنا نستمع إلى حرقة اليأس في لهجتهم وردود فعلهم الغاضبة لا سيما حين يستقبلون عائداً من «الميدان»، فنسمعهم يتنهدون حرقة، وقد يبكي بعضهم وجعاً، مسلّمين بأن الهزيمة ستكون أوسع مدى مما كانوا يقدّرون، وأن غدهم إلى ضياع إذا لم يحصل تبدّل جوهري في ميزان القوى بين «العرب» بمجموعهم وهذا العدو المعزز بالتأييد الدولي قبل السلاح الحديث والإمكانات المفتوحة.
كانت أقطار المشرق، لبنان وسوريا وإمارة شرقي الأردن ومعها العراق، أضعف من أن تكون «دولاً»: لا مؤسسات فعلية، ولا قدرات، لا جيوش حقيقية ولا سلاح، لا علاقات تكامل بينها ولا تنسيق ميدانياً، لا معرفة بالعدو الإسرائيلي ولا معلومات تفصيلية عن قدراته الفعلية قبل الحديث عن موقعه الممتاز في الغرب كما في الشرق، وجهل مطبق بخططه التي تمّ تنفيذها الممتاز على امتداد نصف قرن من العمل اليومي الجاد والمنهجي داخل فلسطين وبامتداد الخارج (الدولي) ثم المجتمعات العربية ومن فوق رؤوس الحكومات وأجهزة المخابرات البدائية.
وكذلك كانت مصر البعيدة، خلف شبه جزيرة ـ سيناء ـ الصحراء، مشغولة بمباذل نظامها وصراعات قواها السياسية في ظل الهيمنة البريطانية.
في بعض مناطق لبنان، كان نفر من الأهالي قد وجد في تهريب السلاح الخفيف مصدر رزق، وكان يتكبّد عناء «السفر»، ليلاً، متجنباً حواجز رجال الدرك وهي قليلة، للوصول إلى جبل عامل ومنه إلى بعض أطراف الجليل، حيث يبيع البنادق وبعض الرصاص إلى المجاهدين من أبناء فلسطين، مفترضاً أنه قد أدى خدمة جليلة، متبرئاً من أن يكون هدفه التجارة.
وحين وقعت «النكبة» التي كانت تتجاوز بأثقالها ونتائجها هتافات المتحمسين «يا فلسطين جينالك» أدرك الأهالي بحسهم التاريخي أن ليلاً طويلاً سيلتهم مستقبلهم، خصوصاً وقد انكشفت دولهم المتهالكة كما تبدّت فرقتهم واختلافاتهم جلية عبر متابعتهم لمسلسل الاتهامات المتبادلة بالخيانة التي صدرت عن مختلف القوى الشعبية كما عن الحكومات والمرجعيات الرسمية: لم يكن أحد يعرف ما يكفي عن المشروع الإسرائيلي، لم يكن أحد مستعداً للمواجهة، ولا يملك أحد خطة لما بعد الهزيمة وكيف نعوّضها أو ـ أقله ـ نحد من آثارها وتداعياتها على المجتمعات، خارج فلسطين، لا سيما وقد تدفق آلاف بل عشرات الآلاف من اللاجئين إلى بلدان الطوق، أي جيران فلسطين: لبنان وسوريا والأردن.
أما لبنان فأهل جبل عامل المتداخل مع الجليل كانوا يعرفون جيرانهم، بل ويعملون لديهم، أحياناً، ويتسوّقون من مدنهم.. وأما في حوران وسائر جنوب سوريا فقد كان السكان أقارب ينتمون إلى العائلات (أو القبائل) ذاتها، وبالتالي كان طبيعياً أن يستقبلوا بعض أهلهم ريثما تنتهي الحرب بانتصار «الجيوش» العربية ومعها «جيش الإنقاذ» الذي يضم المتطوعين، والتي لم تكن تشكّل بمجموعها كتيبة واحدة ضعيفة السلاح معدومة المعرفة بأرض فلسطين، ينقصها التنسيق ووحدة القيادة، في حين أنها ذاهبة لمواجهة جيش عصري هائل القدرات والإمكانات بينها طائرات حربية ودبابات ومدفعية ومظليون وقوات خاصة وأجهزة تنصت واستكشاف ليلي… فضلاً عن تواطؤ الانتداب البريطاني معه، قبل الحديث عن تواطؤ بعض الأنظمة والزعامات العربية مع العدو مباشرة أو بواسطة «طرف ثالث».
كانت جامعة الدول العربية منظمة إقليمية ضعيفة أقيمت على عجل في ظل هيمنة أجنبية مفتوحة على قرار دولها التي اضطرت إلى القبول بتحفظات لبنان ذات الخلفية الطائفية التي تخفف من أثقال «عروبته». وأقصى ما استطاعت الوصول إليه الاعتراف بنوع من الحكومة المؤقتة لشعب فلسطين لا سلطة لها على أرضها ولا قدرة عندها على جمع شمل شعبها الذي تفرّق أيدي سبأ بين لاجئين مضطهدين في أرضهم المحتلة تحت سيطرة العصابات الصهيونية التي ستتحوّل قريباً إلى «جيش الدفاع الإسرائيلي»، أو مشرّدين خارج ديارهم يتوزعون كلاجئين على بلدان الجوار.
ومن الضروري ملاحظة الدقة الدالة على خطة محكمة معدة سلفاً عند العدو الإسرائيلي منها تسمية جيشه: فهو «جيش الدفاع» بينما كانت مهماته جميعاً هجومية… وكان جيش احتلال يسعى لوراثة، جيش احتلال آخر (بريطاني)، في حين أن البيانات الحكومية العربية، فضلاً عن أدبيات التنظيمات والأحزاب، كانت جميعها هجومية وكأنها قد صدّت الهجوم وهي في طريقها لإنجاز التحرير بينما الهزيمة تجتاح الأرض والجيوش والدول والقوى الشعبية وترسم أفقاً من الضياع للحياة العامة العربية ما يزال مفتوحاً حتى اليوم.
بهذا المعنى فإن جيلي فلسطيني الهوى بل هو فلسطيني القضية لأن فلسطين ملأت علينا حياتنا كقضية، منذ الطفولة، فعشنا شبابنا معها وكذلك الكهولة باعتبارها عنوان النجاح أو الفشل في حماية مستقبلنا بمعنى حقنا في الحياة الكريمة من خطر داهم يتهددنا في وجودنا ذاته.
ولقد اكتسبت هذه القضية قداستها لشمولها كل ما كان الآباء يناضلون من أجله: الهوية، بداية، وحقنا في أرضنا، وحقنا في بناء أوطاننا بما يحفظ كرامة أهلها ويفتح أمامهم طريق المستقبل الذي يؤكدون حقهم به بجدارتهم.
ولقد حصل، واقعياً، الدمج بين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وبين تواصل النضال للتحرر من الاستعمار الأجنبي الذي كان يفرض قراره على هذه الدول العربية التي «استقلّت» من دون أن تتيسّر لها القدرة على حماية استقلالها.
صارت فلسطين الاسم الحركي للتحرّر، للاستقلال، للتقدم، لبناء المستقبل الأفضل… فطالما كنا مهزومين في ميدان المواجهة مع العدو الإسرائيلي الذي يختزل كل قوى الاستعمار والعنصرية قاهرة الشعوب، فستكون دولنا المهزومة من كرتون، ولن تستطيع أن توفر لنا الحياة بكرامة، فضلاً عن أننا لن نتمكن من تحقيق غدنا الأفضل. وهذا هو تاريخ التراجع في ظلال الهزيمة يشرح بالوقائع الدامغة لماذا نحن في قعر الهزيمة، نضيع عن غدنا، ونقتتل في ما بيننا في قلبِ عفن الأساطير والخرافات المذهبية والطائفية حتى نسيان العدو الحقيقي والوحيد، وهو عدونا جميعاً لأي دين انتسبنا، ولأية طائفة انتمينا، وفي أية أرض عربية نقيم في ما بين النيل والفرات أو فيما يتجاوزهما إذا أخذنا في الاعتبار أن الهيمنة لا تكون بالعسكر فقط.
فإسرائيل أخطر من أن تكون قوة وافدة، عنصرية، جاءت من الخارج ومعها كل الخارج تقريباً، يزوّدها بسلاح حديث وطوابير من الجند الذين درّبهم في جيوشه إبان الحرب العالمية الثانية.
إنها حملة «صليبية» جديدة، بمعنى أنها تسلحت بالشعار الديني، وتكتلت لتأييدها قوى الاستعمار التي لما تكن قد أكملت جلاءها عن أرضنا، لأن الهدف لم يكن احتلال فلسطين فحسب بل احتلال الإرادة العربية جميعاً، ومصادرة الغد العربي في الأرض العربية كلها.
[ [ [
على أن حديث فلسطين لا يكتمل لبنانياً إلا باستذكار واقعتين بارزتين في تاريخ علاقتنا مع هذه القضية المقدسة:
الواقعة الأولى: في واحد من أوائل أيام أيار 1968 انتشر في بيروت خبر استشهاد الفتى خليل عز الدين الجمل الذي ذهب للالتحاق «بالفدائيين» في الأردن. وفي اليوم التالي كان لبنان كله ينتظم في تظاهرة مفتوحة امتدت ما بين الحدود مع سوريا وحتى بيروت لتشييع الشهيد. من مجدل عنجر إلى بر الياس فشتورة (التي تجمّع فيها أهل البقاع الشمالي)، فإلى المريجات ثم صوفر وعاليه والكحالة والفياضية وصولاً إلى ساحة الشهداء مروراً بمنطقة فرن الشباك، ثم عبر جولة شملت المتحف ـ البربير ـ البسطة ـ ساحة رياض الصلح… انتظم اللبنانيون من مختلف الطوائف في سلسلة بشرية تتناوب على حمل النعش حتى المسجد الكبير حيث تمت الصلاة عليه، ثم جبانة الشهداء حيث ووري الثرى.
كان شعب لبنان جميعاً في التظاهرة التي أكد فيها دعمه لقضية فلسطين وحق شعبها في وطن له ودولة فوق أرضها المطهّرة.
أما الواقعة الثانية، فهي تلخص لحظة الحزن الأسود على مصير العمل الفدائي أو الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان: فذات ظهيرة من أحد أيام القيظ، صيف 1982، تقاطر المئات من اللبنانيين إلى مرفأ بيروت ورشاشاتهم في أيديهم لوداع القافلة الأولى من قادة المقاومة الفلسطينية وقد ركبوا البواخر مرتحلين إلى اليونان، بناء على اتفاق رعته الولايات المتحدة الأميركية وأشرفت على تنفيذه القوات الدولية المشتركة التي كانت قد استُقدمت إلى لبنان لحماية من تبقّى من أهل المقاومة الفلسطينية ورفاق سلاحهم من اللبنانيين من المذابح المنظمة التي كان مؤكداً أن جيش العدو الإسرائيلي، الذي كان قد اجتاح معظم لبنان جنوباً وبقاعاً وجبلاً حتى بيروت، سوف يرتكبها ضد جموع هؤلاء الذين دخلوا إلى الجنوب على أساس أنهم سيكملون الرحلة المباركة نحو فلسطين، مستعينين بأهلهم في لبنان كأدلاء وخبراء في معارك الأرض الفلسطينية ومواقع قوات الاحتلال التي يحفظونها عن ظهر قلب.
في الفترة الفاصلة بين الطفولة البالية على الاحتلال الإسرائيلي فلسطين وتشريد أهلها وقدوم عشرات الآلاف منهم، نساءً وأطفالاً ورجالاً، إلى لبنان الذي «استضافهم» كلاجئين، وقد تحكّمت السياسة المرتكزة إلى الحساسيات الطائفية في اختيار مواقع مخيمات اللجوء.
.. وبين خروج قوافل الذين بدأوا ثواراً ثم أبعدتهم مجريات السياسة وصراعاتها، محلياً وعربياً ودولياً، عن فلسطين، وعن البلاد التي استضافهم كعابرين إلى أرضهم.
بين هذين المشهدين تبلبلت المشاعر والعواطف في ظل انهيار نموذج «بطل التحرير»، لكن الموقف من القضية المقدسة ومن شعبها المشرّد والمحروم من أرضه كلها، بمعزل عن اتفاقات التسوية من موقع المستضعف والمستفرد، ظل هو هو لا يتبدّل ولا يتزعزع:
فلسطين هي عنوان النضال من أجل الغد العربي الأفضل. هي عنوان الوحدة العربية، وهي عنوان التقدم العربي لدخول العصر، وهي التجسيد العملي للتحرر واستعادة القدرة على القرار.
وستبقى فلسطين القبلة ومجمع الأسماء الحسنى بكنيسة القيامة و«المسجد الأقصى الذي باركنا حوله» وعنوان الجهاد المقدس حتى التحرير بالوحدة ودخول العصر.