كل محلل سياسي جاد قابلته في الأيام الأخيرة وجدته يسأل أو يجيب في شأن يتصل من قريب أو بعيد بأهداف ومستقبل الوجود الروسي في الشرق الأوسط. اهتمام له ما يبرره في هذه الأوقات، وبخاصة في وقت تزدحم الأجواء بخطابات شتى عن مستقبل ترامب وأمريكا والعالم ومستقبلنا إن شئتم. ففي مثل هذه الأوقات تحلو الإغاظة ويتعاظم الكيد حتى في السياسة الدولية. سمعت، وأنا أسمع كثيرا، من يردد تعقيبا على وصول قطع ثقيلة من البحرية الروسية إلى قاعدة تسهيلات على الشاطئ السوري وعدد كبير من مقاتلات السلاح الجوي إلى قاعدة حميميم، السورية أصلا، يردد القول “هكذا يكون الزمن قد دار دورة كاملة. هنا في الشرق الأوسط وفي مصر تحديدا استطاع الثنائي نيكسون ـ كيسنجر الاستفادة من بعض أجواء وظروف حرب أكتوبر ليكسبوا نقطة استراتيجية في حربهم الباردة مع الاتحاد السوفييتي. ناورا وتدخلا وأنذرا أطراف حرب أكتوبر حتى أفلحا في إخراج روسيا من مصر والشرق الأوسط إجمالا. اليوم وبعد خمسين عاما يرد بوتين الصاع صاعين، تعود روسيا وتخرج أمريكا”.
أفهم لماذا وكيف عادت روسيا إلى الشرق الأوسط. أعتقد أنها عادت كما حاولت أن تعود كل من بريطانيا وفرنسا بعد أن استقلت مستعمراتها العربية، وكما ستعود أو تحاول أن تعود كل دولة عظمى أو كبرى إلى موقع هيمنت عليه ذات عهد أو مرحلة وفرضت إرادتها على حكوماته وشعوبه، تعود إلى مجد كان ومكانة كانت وربما لاستعادة مكان في صفوف القيادة الدولية. روسيا تعود لأن الرئيس فلاديمير بوتين أقسم في يوم من الأيام أنه لن يترك الكرملين إلا وروسيا استعادت “قطبيتها” في نظام قيادة العالم. وطبعا لا موقع على خريطة العالم بالأمس أو اليوم يضاهي الشرق الأوسط في أهميته عند قياس العائد والنفوذ والمكانة.
عادت روسيا أو تعود لأن الرئيس بوتين حسب حسبته بدقة. تبقى روسيا، الدولة الشاسعة، الدولة القارة، بإمكانات غير وفيرة أو متناسبة مع هذا الاتساع في الأرض. عرف أنه سوف يعتمد على النفط لمدة طويلة قادمة. ولهذا الغرض بالذات يجب أن يكون على مقربة من الخليج، المستودع الأهم للنفط في العالم. لن يعود ليحل محل أمريكا مهيمنا ولا محل بريطانيا العظمى مستعمرا، سيعود مؤثرا عن قرب ونافذا ومهابا ونافعا. بلغه من مستشرقيه الروس وبعضه لا يقل علما وتأثيرا عن مستشرقي الغرب، بلغه أن لا أفضل من دمشق على امتداد التاريخ موقعا لممارسة التأثير إن لم يكن على كل أنحاء الشرق الأوسط فعلى الأقل على النواحي الناطقة بالعربية وبخاصة تلك المختزنة النفط كالخليج وتلك المولدة للنفوذ كمصر. المهم أن يكون قريبا من مواقع تحديد أسعار النفط فتبقى دائما مرتفعة.
عادت روسيا أو تعود إلى إقليم تتعدد فيه الدول “الشقية”، أقصد الشقاوة ولا اقصد الشقاء والهم. مميزات الدول الشقية سر عرف علماء العلاقات الدولية كيف يخفونه عن عيون غير المتخصصين. كلنا، نحن تلاميذ العلاقات الدولية، درسنا هذه المميزات وهذه الدول تحت مسميات مختلفة إلا هذا الاسم. أظن أنه لم توجد قوة إقليمية أو دولية لم تعتمد في تنفيذ بعض سياساتها وأهدافها على دولة من هذه الدول الشقية. هناك في هذه الدول يعيش من يغسلون الأموال ويرتبون الانقلابات ويتحالفون مع عناصر بعينها في دول مجاورة ويعرفون عنها ما لا يمكن أن يعرفه حتى مواطنوها، فيها تنبت الأفكار غير العادية والمبتكرة عابرة الحدود. كل دولة عظمى لها دولة شقية أو دولة بخبرة الدولة الشقية متعددة الشبكات والمعارف الضرورية عن الاقليم. ليس سرا أن الشرق الأوسط عامر بدول شقية وروسيا إن ارادت تأمين عودتها وتبسيط مهمتها فلن يكون صعبا عليها ترتيب علاقات من هذا النوع.
أشهد بعد تشاور مع خبراء بأن تكلفة عودة روسيا إلى الشرق الأوسط لم تكن باهظة. بل لعلها الأرخص والأقل في الضحايا البشرية بين كل تدخلات الدول الكبرى ومغامراتها الخارجية. ازداد اهتمامي بالموضوع عندما علمت أن روسيا على امتداد وجودها في سوريا منذ عام 2015 لم تحتفظ بأكثر من سربين من الطائرات المقاتلة. لاحظنا أيضا أن روسيا لم تواجه مقاومة حقيقية أو جادة من خصمها الأمريكي المفترض أن يكون لدودا. بل نعرف الآن أن الرئيس بوتين لم يقرر دخول سوريا إلا بعد أن تأكد أن الفراغ الذي نشأ نتيجة انسحاب الرئيس أوباما من هناك كان يمكن أن تملأه أي قوة تزيد الفوضى والتوتر اشتعالا، كأن تضطر إسرائيل إلى التدخل عسكريا أكثر مما يحدث عادة وأعنف. بمعنى أخر تدخل الرئيس بوتين في سوريا وفي مقدمة أهدافه تحريمها على آخرين.
بالنظر إلى الخسائر المتواضعة التي تحملتها روسيا في حملتها للعودة إلى الشرق الأوسط واستعادة مكانتها الدولية التي حرمتها منها الولايات المتحدة وتدهور إمكانات القوة الاقتصادية الروسية والحصار الاقتصادي، أتصور أن العائد الكلي من هذه الحملة كان إيجابيا، بل لعله الآن أكبر مما توقعه المسؤولون في الكرملين. مثلا كانت الحملة فرصة لتجربة أسلحة جديدة وتكتيكات جديدة. جربت أيضا تصورات جديدة كانت قد خلصت إليها منذ عامين أو اكثر. جربوا مثلا إدارة حرب خارجية من مواقع في القوقاز ومن غواصات في مياه روسية ودولية بعيدة. تعرضت القوات الروسية في سوريا لحرب إلكترونية حقيقية ومارستها، وما كان يمكن أن تمارسها في ساحة أخرى. كذلك دخلت وربما للمرة الأولى تجربة إشراك فرق المرتزقة المدربة تدريبا ممتازا ومزودة بأسلحة متفوقة تحت التجربة. لعبت هذه القوات دورا هاما في معارك عديدة واكتسبت خبرات حرب فعلية. أنا شخصيا لا أستبعد أن تقوم هذه القوات بمهام كثيرة وجوهرية في مواقع أخرى في الشرق الأوسط ولتكن البداية في لبيبا حيث تستعد روسيا لإقامة قواعد عسكرية مناسبة وطويلة الأمد. كل القوى هي الآن في الطريق إلى أفريقيا.
يضيف مراقبون إلى الفوائد التي عادت على روسيا عوائد لم تكن في حسبان المخططين الروس. المؤكد أن الوجود الروسي في سوريا وضع قيودا على طرفين أساسيين في معادلة الأمن الدولي والإقليمي، إسرائيل طرف منهما والولايات المتحدة طرف آخر. هذه القيود تجعل من روسيا خصما يحسب له حساب يختلف عن المعاملة التي كان يلقاها الروس في كل مرة أبدوا ملاحظة أو تعقيبا على تجاوزات وتصرفات أمريكية وإسرائيلية في الشرق الأوسط. حتى بنيامين نتنياهو صار من حجاج الكرملين ككثيرين غيره من حكام الشرق الأوسط. أضف هذا العائد المهم إلى ملاحظتنا قبل قليل عن نفوذ روسيا المتزايد في التأثير على أسعار النفط لمجرد وجودها الملموس على مرمى حجر من منابع الخليج. من باب المبالغة ذات المغزى العميق ما كتبه محلل اقتصادي أوروبي عن الآثار المحتملة على أمن وسباقات إنتاج الغاز في شرق المتوسط نتيجة وجود غواصات روسية على بعد أمتار من كافة منشآت الغاز المقامة في أعماق مياه المنطقة.
لا أستهين، وأدعو إلى عدم الاستهانة بنية روسيا أن تكون إقامتها بسوريا مطولة. أظن أن روسيا لن تكتفي بسوريا وقواعدها البحرية والجوية على أراضيها، أظنها تتفاوض الآن على مواقع جديدة أقرب إلى مواقع النفط والغاز، ومواقع في دول هي أكثر وأعمق تأثيرا في جاراتها. لا أستهين بطموحات دولة كانت إلى عهد قريب جدا قوة عظمى لم تنس إهانة طردها، أو بدولة تسعي لاستئناف صعودها إلى مصاف الأقطاب وهناك من يضع العراقيل في طريق صعودها، أو بدولة يعلم قادتها علم اليقين أن الصين قادمة على عجل لتملأ في الشرق الأوسط فراغات وتحتل مواقع تزعم أنها خصصت لها استثمارات أضخم من أن تتحملها اقتصادات أي من القوى المنافسة منفردة جاءت أم مجتمعة.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق