توصلت من متابعتي للنقاش الدائر في الولايات المتحدة حول الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للحرب في افغانستان إلى أنها ليست استراتيجية وليست جديدة. بعبارة أخرى هي لن تغير من واقع الأمر في أفغانستان أو جنوب آسيا شيئا مهما ولن تخفض من تكاليف الحرب وهي أيضا، وهو الأهم لا تعد بنهاية قريبة لهذه الحرب.
فهمت من النقاش أن الاستراتيجية الجديدة انتهى العمل في إعدادها وصياغتها وكانت جاهزة للإعلان منذ شهر يونيو الماضي. حال دون إعلانها في ذلك الحين إصرار “ستيف بانون” كبير مستشاري الرئيس على ضرورة تبني الاقتراح المقدم منه ومن إريك برنس صاحب بلاكووتر أكبر شركات الأمن الخاص بخصوص الإحلال التدريجي للقوات الأمريكية بقوات أمن خاص، أي بقوات من المرتزقة. قيل في ذلك الحين أن المؤسسة العسكرية ويمثلها في البيت الأبيض الجنرال ماكماستر وفي الحكومة الجنرال ماتيس وزير الدفاع وقبل أن ينضم لهما الجنرال جون كيلي المعين حديثا لإدارة البيت الأبيض، رفضت هذا الاقتراح. فهمت أيضا أن الجنرال ماتيس وزير الدفاع كان يستطيع زيادة عدد القوات الأمريكية العاملة في أفغانستان دون العودة إلى رئيس الجمهورية حسب الصلاحيات التي منحها له الرئيس عند اختياره أو التي انتزعها من الرئيس قبل تعيينه وزيرا. على ضوء هذا النقاش أستطيع أن أتصور أن كيلي والمؤسسة العسكرية من ورائه أرادت أن تصدر الاستراتيجية الجديدة باسم الرئيس وأن يعلنها بنفسه ليطمئن العسكريون في الوطن وفي افغانستان إلى نوايا الرئيس ترامب، ورغبة في تسجيل التزامه عقيدة الدولة العسكرية وحرمانه من تغيير أقواله في شأن يهم الأمن القومي ويتعلق بحماية القوات العاملة في أفغانستان.
***
عدت إلى وثيقة الاستراتيجية الجديدة التي قرأها في فرجينيا الرئيس ترامب باحثا فيها عن مغزى وتجديد. افترضت مسبقا أنني سوف أجد في الوثيقة تعريفا جديدا لأهداف الحملة الأمريكية في افغانستان. لم أجد. كذلك لم أعثر في الوثيقة على فقرة أو عبارة تنقل لي بالوضوح الكافي أهداف أمريكا من استمرار وجودها في أفغانستان. تأكدت من أن المواطن الأمريكي لن يتمكن نتيجة اطلاعه على الاستراتيجية الجديدة من تقدير مسافة زمنية أو مساحة من المكاسب المترابطة تشجعه على ممارسة حقه في توقع تاريخ مناسب لإعلان نهاية هذا الصراع. لم تتحدث الوثيقة مثلا عن شكل الهزيمة التي سوف تنزل حتما بقوات الطالبان، لا حديث عن هزيمة عدو ولكن لا حديث أيضا في الاستراتيجية الجديدة عن نصر أو فوز. وجدت نفسي في النهاية متفقا مع ما كتبه أحد المعلقين فقال “هذه الاستراتيجية ليست أكثر من قائمة رغبات غير متناسقة”.
***
من أجل فهم أفضل للاستراتيجية الأمريكية الجديدة للحرب الأفغانيىة يبدو ضروريا التوقف قليلا عند الظروف التي أحاطت بإعلانها. نعرف، كما يعرف غيرنا ممن يقضون وقتا مناسبا يراقبون أداء إدارة الرئيس ترامب، أن البيت الأبيض خارج لتوه من حال انفراط، وأن رئيسا جديدا لهيئة موظفي البيت الابيض جرى اختياره لإدارة القصر الرئاسي من داخل المؤسسة العسكرية، وهي بالمصادفة وللغرابة، تكاد تكون المؤسسة الوحيدة في الولايات المتحدة التي لم يصطدم بها الرئيس دونالد ترامب.
لم تفاجئني تحليلات أعربت على استحياء عن حال القلق المتراكم داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية بسبب ما تلاحظه من زيادة في درجة التوتر الاجتماعي وتدهور العلاقات المؤسسية وانهيار الثقة بين القيادة السياسية والمؤسسة الإعلامية، وأخطر من هذا كله التردي الذي أصاب العلاقات الأمنية الأطلسية في السنوات الأخيرة وبخاصة منذ وصل ترامب إلى الرئاسة. من ناحية أخرى بات واضحا احتمال تصاعد التوتر في منطقة جنوب شرقي آسيا، وتكاثرت الغيوم حول مستقبل الشرق الأوسط وتوزيع النفوذ فيه. هناك أيضا ما استقر في تقارير الاستخبارات العسكرية من أن الطالبان يجهزون أنفسهم لاحتلال كابول خاصة بعد أن اتسعت مساحات المناطق الواقعة تحت سلطتهم وبعد أن تضخمت أعداد القتلى من جنود الجيش والأمن الأفغانيين.
***
تعتمد الوثيقة الاستراتيجية الجديدة على أعمدة ليست جديدة تماما. أعني مثلا الانتقال من الاعتماد على مبدأ تحديد مدد للوجود العسكري لا علاقة لها بالحال على الأرض إلى الاعتماد على مبدأ الحال على الأرض لتقدير ضرورة استمرار الوجود من عدمه. واقع الأمر يشهد بأن تاريخ الحرب في أفغانستان كان يراعي ويمارس المبدأين في وقت واحد. هكذا فعل الرئيس أوباما وهكذا يفعل الرئيس ترامب رغم الادعاء بغير ذلك من الطرفين.
استندت الاستراتيجية كذلك إلى نية الرئيس ترامب المعلنة منذ الحملة الانتخابية عدم التدخل في شئون دول أخرى تحت عنوان أو ذريعة بناء الأمة. هذه الاستراتيجية تحقق التقاء الرئيس مع المؤسسة العسكرية حول هذا المبدأ. ألمح كثيرون من المعلقين العسكريين إلى أن المؤسسة العسكرية تتمنى ألا يتدخل رئيس أمريكي فيأمر بخروج متسارع كما فعل الرئيس أوباما وهو الأمر الذي تسبب في ضرر كبير، أو إلى التدخل في شأن يتصل بالأمن القومي قبل استشارتها. وهو التدخل الذي كاد يتسبب في ضرر أكبر.
هناك ميل مؤكد في هذه الاستراتيجية نحو ضرورة فرض ضغوط على باكستان أكبر وأكثر من التي تفرض حاليا. الكل يدرك أن التهديد المتواصل أو المتكرر بقطع المعونة لم يعد يجدي مع الحكام الأجانب وبخاصة العسكريون منهم. سوف يكون أجدى وربما أسرع تأثيرا إقناع الهند، إلى حد ابتزازها، لتتوسع في تدخلها في أفغانستان. هناك فيما يبدو وعد من أمريكا بمساعدة الهند ضد الصين مقابل مساعدة الهند لأمريكا في أفغانستان في المرحلة القادمة. في ظني، أن الهند، بالرغم من كل إشارات الحب والود التي صدرت عن ناردنرا مودي خلال زيارته أمريكا، لن تقبل مؤسستها العسكرية الدخول في مغامرة أفغانية كتلك التي دخلتها في سريلانكا ودفعت فيها ثمنا عسكريا باهظا.
***
اتفهم رغبة الرئيس ترامب وبعض مستشاريه والشيوخ في الكونجرس الخروج من أفغانستان بأي ثمن. مبررات هذه الرغبة عديدة ليس أقلها أهمية أنه لم يعد لدى أحد أمل في قيام حكومة قوية في كابول تتولى إدارة الدولة بكفاءة، أو أن البقاء في أفغانستان صار باهظ التكلفة واللاشعبية في أمريكا، ثالثا أنه تأكد استراتيجيا وعلى ضوء ما استجد في العالم من تطورات، أن أفغانستان ليست على درجة من الأهمية تستحق كل هذه التضحيات، رابعا، أن دولا أخرى صاعدة في النفوذ والقوة آن لها أن تتحمل نصيبا من حروب الأفغان. الإشارة إلى الصين والهند لا تفوت علينا.
***
لا استمرار الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان مرغوبا فيه بقوة، ولا الخروج من أفغانستان نهائيا ممكنا وبسيطا وربما هو الآخر غير مرغوب فيه على اطلاقه. إلا أننا يجب أن نعرف أن الحرب في افغانستان صارت جزءا لا يتجزا من العقيدة العسكرية الأمريكية، أكاد أشبهها بالعجل المقدس في تراث العبرانيين.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق