برغم الشلل العام في مؤسسات الحكم منذ تفجّر »الديموقراطية« وتفجيرها مجلس الوزراء، يوم الأربعاء الماضي، فقد أمكن »تأخير الساعة« انسجاماً مع الضرورات التي قضت بإرجاء القرار الحاسم لمختلف الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ..
على أن »تأخير الساعة« لا يكفي وحده للتغطية أو لطمس مجموعة من الحقائق الموجعة التي تتحكّم بحياتنا، وأبرزها أن مؤسسات الحوار الديموقراطي في لبنان إما شكلية، أصلاً، وإما معطلة فعلاً، وإما أنها غير موجودة إلا بالتمني.
لنأخذ، على سبيل المثال، مجلس الوزراء كمؤسسة.. ديموقراطية!
ما من مرة شهدت هذه المؤسسة حواراً جدياً داخلها مما يفرض اللجوء إلى التصويت إلا وانفجرت جارفة معها البلاد نحو »أزمة حكم« خطيرة!
فالحكومة التي تبدو في ظاهرها وكأنها »قيادة سياسية«، سرعان ما تنكشف تركيبتها الهشّة عند ارتطامها بأية مشكلة جدية: فإذاً هي ليست بجبهة سياسية، ولا هي ائتلاف بين مختلفين قضت المصلحة الوطنية العليا باتفاقهم مرحلياً على برنامج محدَّد، ثم إنها باختصار حتى إذا ما حملت اسم »مجلس الوزراء« ليست مؤسسة… ولا هي على وجه الخصوص مؤسسة ديموقراطية!
لكن المشاركين فيها يأخذون من كل توصيف مفترض أسوأ ما فيه:
تصير كل وزارة »دولة«، امتيازاً، دائرة نفوذ، إقطاعية خاصة لوزيرها »السياسي«، تمارس استقلالها عن »المجالس« جميعاً برؤسائها والحلفاء الآخرين الذين سرعان ما يتحوّلون إلى »خصوم« أو »منافسين« في أحسن الحالات.
المثل الآخر: مجلس النواب، كمؤسسة.. ديموقراطية!
ما من مرة حاول النواب، أو بعضهم، أن يمارسوا دورهم في مراقبة الحكومة أو محاسبتها إلا ونُظر إلى الأمر وكأنه تجاوز من المجلس لصلاحياته، ولجوء إلى التطرف لا بد من التشهير بممارسيه ومطالبتهم بالتوبة وطلب المغفرة.
وفي داخل المجلس يكاد ينعدم الحوار بين النواب أنفسهم. فهم، بغالبيتهم الساحقة أعضاء في »كتل«، ولكل كتلة رئيس صارم وظالم لا يحب الثرثرة، وهو وحده مَن يفكر ويقرّر وينفذ، فإذا ما تجرأ عضو في كتلته فقال رأيه جرى تأديبه علناً ليكون عبرة لمن يعتبر.. والمحدلة جاهزة!
وفي الغالب الأعم فإن الوزراء هم رؤساء الكتل أو مجرد ممثلين شخصيين لهم، يعودون إليهم في الصغائر والكبائر ولا يقرّرون، وإذا ما حصل إن »عارض« الوزراء داخل مجلسهم لأمر ما فهذا لا ينسحب بالضرورة على مواقفهم كنواب، أو مواقف »نوابهم« وهم مرة أخرى أتباع أو ممثلون شخصيون لرئيس الكتلة في البرلمان.
النائب موالٍ طالما استمرت نيابته، ونائب طالما استمرت موالاته: موال لرئيس كتلته ومن ثم للحكومة التي تضمه وزيراً، واستطراداً فهو في المجلس بغير دور، لا رأي له ولا قرار.
أما الوزير فمشكلته أكثر تعقيداً، ذلك أن الحكومة برئيسها.
لكن رئيس الحكومة »متقدم بين متساوين«، و»ثابت« بين مجموعة من »الثوابت« من »وزرائه« الذين سيبقون وزراء مهما بلغ خلافهم مع »رئيسهم« على خطة العمل وأسلوبه ناهيك بالأهداف.
وكثيرة هي الحالات المشهودة التي تسبَّب فيها الوزراء في تشويه صورة »حكومتهم« التي ليست بالضبط »حكومتهم«… ومعظم ما يتداوله الناس اليوم من أخبار الصفقات المشبوهة والاختلاسات ووجوه الهدر والفساد إنما مصدره الوزراء (أما الرؤساء فمصدر الأخبار الأشد خطورة والتي تتصل بالنهج السياسي العام).
أليس مما يلفت أن يتوافق الوزراء داخل مجلسهم ويتخاصموا خارجه، أن يصمتوا في الداخل ثم يعنفوا في النقد والذم في الخارج بحيث يكاد »صاحب المعالي« يدعو زميله إلى المبارزة، تاركاً له اختيار الزمان والمكان والسلاح!
كيف السبيل إلى حوار وطني، إذن، إذا كان مجلس النواب أخرس ومجلس الوزراء أبكم؟!
إذا ما تجرّأ بعض النواب على مساءلة الحكومة جعلت البرلمان كله يبلع الاتهامات ويعيد منحها الثقة وبأكثرية محترمة،
أما إذا احتدم الخلاف داخل مجلس الوزراء إلى حد التصويت على قرار مختلف عليه فإن الحرج أو الإحراج يتخذ طابعاً وطنياً عاماً، إذ تصبح »الديموقراطية« خبراً تتوِّج به الصحف صفحاتها الأولى،
لكن المقدمات تختتم دائماً بعكس منطقها: تبقى الحكومة والخلافات في قلبها، ويذبل الزهو النيابي بالانتصار الذي لم يتم، ويتوافق الجميع على… تأخير الساعة؟!
أين الديموقراطية ولا حوار، حتى بين رفاق السلاح والمؤلفة قلوبهم و.. جيوبهم؟!
وأين الحوار وكل طرف يجتهد في إلغاء الطرف الآخر إما بتسفيه منطقه أو بتهديده بماضيه، أو وهذا هو الأخطر بتهديده في حاضره ومستقبله؟!
هل أخَّرت ساعتك؟!
انتبه إلى زمانك فلا تتقدمه ولا تتعدّه،
والحوار مرجأ، في ما يبدو، حتى قيام الساعة!