من حظنا، نحن الاحياء في بدايات القرن الحادي والعشرين، اننا ـ إن عشنا ـ سوف نشهد ولادة جديدة لإنسان ليس هو من كان، ولطبيعة مختلفة عما عرفنا، ولزمن جديد علينا التعرف اليه وقد نسينا ما كان قبله.
لقد بدلت جرثومة أصغر من أن تُرى، صورة العالم الذي عرفناه، لتستولد ـ بالخوف ـ عالماً جديداً، بل لعلها استولدت لكل انسان عالما غير الذي عاش فيه، سواء في بيته مع اهله وخلانه، او في مكتبه مع زملائه ورفاق العمر.
صار الانسان يخاف من اهله، من الكنبة ـ التي كان يستلقي عليها بعد الغداء ليأخذ قيلولة قصيرة قبل العودة إلى العمل، من السعي الى الاصدقاء في جلسة سمر: من اهله، من سائقه الخاص، من هواء النافذة، من اصطفاق باب البيت، من سرب الحمام الذي يؤنسه مرتين في اليوم، صبحاً وعند العصر.
أحاط به الخوف حتى ضربه الشلل: لا فكرة جديدة، لا قدرة على التخيل ـ كأنما، توقف عقله عن انجاب الافكار الجديدة. بالكاد يستذكر وجوه اصدقائه الذين يخشون مكالمته، كما يتردد من محادثتهم حتى لا يخرجهم من صمت الخوف او يذهب بهم رنين جرس الهاتف إلى خوفهم من خبر سيئ ينعي إليهم أحد الاقرباء او بعض الاصدقاء.
انتهى الزمن الجميل حين كان الهاتف يضج بالبشرى وقبلات الصباح واخبار الانتصارات ومكالمات التطمين على الأهل والجيران واصدقاء العمر.
يطارده احتمال الاصابة بالوباء في كل مكان: في مجلسه في البيت، في السيارة، في الشارع مقفل المحلات التجارية الفخمة التي تعودت بيع “الماركات” ذات التواقيع المذهبة.
يغسل وجهه عشر مرات، عند الاستيقاظ، ويغسل يديه مرتين، يخاف من رنين الهاتف: أتُرى سيحمل اليه نعي صديق او رفيق عمر او زميل عمل او نديم سهر غاب عنه مع حكاياته الطريفة.
يحس، لأول مرة، انه وحيد، لا يستمع اليه أحد ولا هو يحادث احداً.
الهاتف صامت، يخاف من رنينه، يتوقع أن ينقل اليه المزيد من الاخبار التي تذهب بالطمأنينة: وفاة قريب، او دفن صديق بلا مشيعين، او نقل فلان او علان من رفاق العمر إلى المستشفى.
الشاشات مليئة بجثث الذين غادروا دنيانا من دون أن يعرفوا اسباب الوفاة، والى جانبها ارقام المصابين بالجرثومة القاتلة التي تستبيح الفضاء وتركب الهواء من الصين إلى الأمريكيتين، وتجتاح اوروبا بدول الثقافة شعراً ونثراً ورسما وموسيقى: تضرب في ايطاليا فتوجع دافنتشي، وتضرب باريس بأقواس النصر والمسلة الفرعونية والفنادق الفخمة التي اشتراها اثرياء النفط والغاز العرب، والذين يدخلون صالاتها الانيقة بلوحاتها التي أبدعها الخالدون من الرسامين، وصنادلهم مفتوحة لتطل منها أصابع القدمين مزهوة بعريها.
يستذكر ليالي الانس في فيينا، جان بول سارتر يجلس إلى بعض اصدقائه في بعض مقاهي “سان ميشال” وقوس النصر والشانزليزيه ونابليون على حصانه والكونكورد والمدافن الملكية الانيقة حيث ابيحت للرؤساء والخالدين من ادباء فرنسا والمبدعين الآتين من كل مكان إلى مدينة الفن والجمال… في خلفيتها يتزاحم طوابير الفقراء الآتين من بعض دول افريقيا العربية (تونس، الجزائر، المغرب)، وقد “استضافوا” في السنوات الاخيرة بعض الهابين من بلدان المشرق العربي: (العراق وسوريا ولبنان).
الفاصل بين الشانزليزيه والكونكورد كالفاصل بين روما و”دولة الفاتيكان”: مسلة فرعونية لا يوجد مثلها في القاهرة.
أخبار الموت، او أعداد مرضى الكورونا، تملأ الشاشات بالرعب..
لا فرق هنا بين الساكن في بعض احياء نيويورك بناطحات السحاب فيها او اكواخ الفقراء عند هوامشها المنسية.. بين اصحاب القصور الملكية او ساكني الاكواخ، فها هو ولي عهد بريطانيا الامير تشارلز، ابن الملكة اليزابيت، ابنة الملك جورج، ابن الملك على امتداد ستمائة او يزيد من حكم هذه الاسرة ذات التاريخ الاستعماري العريق… ها هو الامير المذهب يخضع للعزل بعيداً عن القصور وأمه الملكة التي تقهر العمر والامراض ولا تشيخ أو تعتزل ليمكنه أن يحكم ولو لمدة اسبوع قبل أن يلتحق بأجداده المذهبين!
لا فرق بين مصارعي الثيران في اسبانيا. وبين المتزاحمين في روما عند تلك البركة الانيقة يرمون إلى مائها بعض ما يحملونه من نقد فضي او مذهب ثم يستديرون ليتمنوا ما لم يدركوه في حياتهم.
الكل يراهن على المجهول.
لكن كورونا “تضرب” في المعلوم!
انها لا تعرف العنصرية ولا تعترف بها: تضرب البيض والصفر والسود والسمر. انها اممية بامتياز!
مع ذلك سنظل نحب الحياة. نحب الشمس والقمر والنجوم التي ترسم طريق المستقبل. نحب الجمال والورد وقصائد الغزل وضحكات الاطفال والخلوات الحميمة، نحب الشعر والغناء والطرب والرقص ودبكة الرجال المندفعين إلى حب الحياة وهم يسحبونك معهم يعلمونك الخطوات التي نسيت.
أنت اقوى من كورونا .
عش حياتك وافرح بإنجازك. عانق احفادك. اهرب إلى موعد مع من تنعش فيك حب الحياة.
الحب هو الدواء الشافي.
أحبوا تصحوا، وتهرب منكم الكورونا التي يقهرها الحب، ويغذيها الخوف.