وحيداً كنبي، كثيراً كأمة، قوياً كجبل عامل… تقاتل.
في الوعر تقاتل، في الثلج تقاتل، في السفح تقاتل وفي أعلى قمة تقاتل… تهاجر جنوباً بينما يهرب غيرك إلى “الشمال” وتقاتل. وتمنح بدمك الاسماء الحسنى للقرى المنسية مثل ياطر وكفرا، حاريص وصربين، مزرعة الحمراء وبيوت السياد، عيتيت والسلطانية، تبنين ودير عامص، رشكنانية وشقرا والرهينة رشاف. تلة الحقبان زندك، والذراع جبال البطم.
جبينك الأرض، سهلها سيفك وصخرها الترس، والإرادة بحر أجاج، كالإيمان، بلا ضفاف، مداها مدى الطلقة البكر وحداء الفجر الهادي: الله أكبر!
تمتشق دمك وتنثره تراباً طاهراً تنغرس فيه حتى التوحد، فإذا لك صلابة الصوان، تسد الطريق على الدبابات أو تنفجر فتفجرها وتجعلها سماداً لزيتونة مباركة جديدة تمنح الآتين بعدك شرف الانتماء إليك – إليها.
لا وقت للحزن، ولا عزاء في الأرض. كيف تعزي في ما لا يموت وما (ومن) يستمر ما استمرت الشمس تشرق كل صبح لتستولد منها حياة جديدة.
تبقى فتبقى، فإن فقدتها فأنت لا أحد، ولا شيء… تشطب كلية، تلغى كنيتك ويسقط اسمك في بئر العدم وينكر وجودك. هي الهوية والاسم والمعنى. تحميها فتحفظك وتحمي ذكرك، فإن هجرتها بقيت واستبقتك ولو نسيك العالم كله، في انتظار أن تعود إليها… على ذاتك فتستعيد اسمك والكنية ولون العينين والبشرة.
فتحدد أنت فيها لا يقربك الموت، ألست تمتد عبرها وتنبعث من ترابها خلقاً جديداً؟! أما العيش خارجها فموت مطلق.
الثرثرة في بيروت، والمساومة في واشنطن، أما في تل أبيب فليس غير التخطيط لعمليات إبادة إضافية، ولمزيد من المطاردة والقتل وتسميم الهواء وتفجير نور الشمس بذريعة مكافحة العنف. العنف امتياز عنصري لشعب الله المختار من شاركه فيه اتهم بمعاداة السامية!
ومن يسمع الخطاب الإسرائيلي، الرسمي، يفترض أن طيران “حزب الله” الحربي هو الذي أغار على موكب إسحق شامير، أو أرييل شارون، داخل غرفة نومه، فقصفه بالصواريخ والقنابل الحارقة وقتل مع الرجال النساء والأطفال وعطر زهر الليمون.
لحمك الآن مثل بيتك: صوت، مجرد “صوت” في معركة شامير – ليفي – شارون، أو في معركة رابين – بيريز الانتخابية… والتوقيت هو الذي يحدد “ميلك” و”هواك” و”حزبيتك” وبالتالي “قائمتك المفضلة”: إن قتلت اليوم فربما فاز “الحمائم”، أما إن أردت فوز “القور” فعليك أن “تموت” قتلاً غداً أو بعد غد، والأفضل: عشية “المعركة” الفاصلة في النصف الثاني من حزيران.
لحمك الآن مثل بيتك: ورقة ، مجردة ورقة في المفاوضات على اللاشيء في واشنطن، إن نجح المفاوض في توقيت استخدامها، فاستدر بها عطف السيد الأميركي فربما عطف عليه ورمى الإسرائيلي بنظرة عتاب، وأرجأ دفع المليارات العشرة ريثما تنتهي مراسم الدفن… أما إذا كان المفاوض متعجلاً ومتلهفاً على الصورة وحفل التوقيع فلسوف تحترق الورقة ونبقى موتى بلا قبور.
قالت الصحافية الفرنسية الصديقة العائدة من أرض المعركة: النازحون كثر، بالآلاف، لكن المقاتلين كثر أيضاً وهم في كل مكان. إنهم لا يهربون. إنهم ثابتون كالأرض.
النزوح؟! إنه المنظر الذي عممته الحضارة الإسرائيلية على المنطقة برمتها من بر مصر إلى بر الشام.
النساء والأطفال والعجائز، الصرر التي تحتضن الذكريات والأنفاس وكراريس الورد، السيارات المفتوحة صناديقها بضغط الهواء المهرب، والعيون الخرساء بالرعب والتي تدور في محاجرها بحثاً عن مغيث أو معين فيهدها التخلي ويمسح دمعها مطراً في أرض موات…
كم مرة دارت بهم السيارة العتيقة وهي تبحث عن ملجأ وسط الحروب الإسرائيلية الكثيرة؟! لقد باتت مدربة بحيث تتم الحركة ذاتياً وآلياً متجهة في اتجاه التنهيدة الحارقة!
لكن النزوح حالة هياج عصبي.
غداً مع الشمس سيعودون. ولكن عادوا من قبل. خرجوا مطرودين ثم طردوهم وعادوا.هم بالأرض أقوى. هم في الأرض أقوى. عابرة هي الدبابات والطائرات والقذائف. أما هم فجذورهم تمتد إلى كعب الأرض، جذورهم هي الارض، أجداثهم هي التراب، وماء العيون هو مدد الأنهار والينابيع والسواقي التي تسلي الفلاح وتعوضه عرق الجبين الأسمر.
وحيداً كنبي، كثيراً كأمة، قوياً كجبل عامل… تقاتل.
ولأنت الأمة كلها، أما البنادرة فخوارج ومارقون وإلى فناء.
أنت الباقي أبداً، كأرضك، وهم الزائلون كنفطهم ، ولو بعد حين
بك يبدأ الزمن، بك يؤرخ، وبك يكتب النشيد، ولك تنطلق “الأوف” غنية بالشجن.
أنت الحادي، وها الموكب تلوح أعلامه مضمخة بنجيع الشهداء في الساحات جميعاً، البعيدة منها والقريبة.
إنها الهجرة الاخرى.
وهي بداية زمن ما بعد النظام العالمي الجديد.