يقسم طلال سلمان كتابه الذي يقع في 343 صفحة وهو كناية عن افتتاحيات نشرت في صحيفة السفير في العامين 1993 و1994، وبعض المحاضرات التي القاها في الفترة نفسها الى قسمين اساسيين: سلام الحطام العربي، والهزيمة ليست قدراً.
فحوى القسم الاول من الكتاب استحالة انهاء الصراع العربي الاسرائيلي على النحو الذي مضى عليه ياسر عرفات بمواكبة اميركية، ويخلص طلال سلمان الى القول ان هذا الصراع »من طبيعة تاريخية، لا يملك احد ان يصفيه او ينهيه او يطوي امره باحالته على جيل آخر« (ص62). في القسم الثاني من الكتاب يؤكد المؤلف عمق ابعاد هزيمتنا في المواجهة مع اسرائيل، ويدعونا الى الاعتراف بأن اسباب اندحارنا هي فكرية في الاساس.
ينهي طلال سلمان كتابه بمناشدة العرب ان يلقوا ثوب الهزيمة وأن يقوموا ب»اقتحام التاريخ ودخوله والانتظام في دورته من جديد« (ص338)، ويدعوهم الى المثابرة في شق طريق المستقبل مهما طال الزمن، بغية فهم واستيعاب العوامل الكامنة التي تسببت بفداحة هزيمتنا. تلك الهزيمة التي تنم عن قصور حاد في ادراك متطلبات العصر وتحدياته، ناهيك عن القدرة على السير في ركابه.
يتسم كتاب »الهزيمة ليست قدراً« بنظرة واقعية للحال العربي… هذه الشفافية بالطرح الواقعي تصبغ الكتاب بمرارة لا مثيل لها. لقد عايش طلال سلمان، هذا القومي العربي العنيد، آمال وطموحات هذه الامة، وشاهد ولا حيلة له ولا امر في ما شاهد كيف هزمت طموحاتنا وتبخرت احلامنا، وسادت روح الهزيمة في نفوسنا، بعد ان اصبحت لفظة »عربي« كلمة نابية تستوجب التأديب. مرارة طلال سلمان، وليدة احباطاتنا المزمنة، لا تقر بالهزيمة (برغم ما تعانيه هذه الامة من هجمة الآخرين ومن ذات البين في آن معاً)، بل هي مفعمة بالغضب المقاوم الرزين المستلهم لهمم العرب التي اخمدتها مآسي هذا الزمن الذي امعن بنا تنكيلاً. يقول طلال سلمان في هذا السياق: »لقد عاد العرب الى نقطة البداية، او الى ما دونها بكثير: فأرضهم الآن محتلة، ومواردهم بيد غيرهم، ومصيرهم يقرره عدوهم، وانسانهم مضطهد ومحروم من ابسط حقوق الانسان« (ص76).
المرارة والغضب في »الهزيمة ليست قدراً« يتلونان احياناً بقدر من التهكم الهادف، كقول طلال سلمان: »الطريف ان الضحية تشارك في الحفل ]اتفاقية 13 ايلول، 1993 بين اسرائيل وما اصطلح على تسميته بمنظمة التحرير الفلسطينية[، وتبتسم لعدسات المصورين وتتصرف وكأنها هي صاحبة النصر او شريكة فيه، بينما الكل يتغامز عليها تاركاً لها المسرح لتقدم فاصلها الهزلي!!« (ص76). هذه الصورة الكاريكاتورية المعبرة تسعى الى استنهاض العرب المنهكين والذين تحولوا الى »حطام« كي يتبوؤا موقعهم الصحيح والطبيعي في هذا الصراع الذي هو »ملك شخصي لكل عربي… بين المحيط والخليج« (ص89).
كيف يكون خلاص العرب من مأزقهم الذي لا يحسدهم عليه احد؟ يرى طلال سلمان، في كتابه »الهزيمة ليست قدراً«، المخرج عن طريق ثلاثة محاور: الديمقراطية، الوحدة العربية، وفك الارتباط بين العروبة والاسلام! هنا لا مناص لي من ان اختلف مع المؤلف، علماً انني اقر (وقبل الشروع في طرح ابعاد رأيي) بانه لا يجوز تحميل الكتاب اكثر من طاقته. الكتاب، ومن دون اي مواربة، هو عبارة عن مقالات واضحة المعاني صيغت بأسلوب سلس للقارئ العام المتعطش للرأي الجريء في زمن الخوف، والتبعية، وتقبيل الايادي، والضحك على الذقون. الا ان الكتاب ليس متخصصاً، والواضح ان المؤلف لم يرم الى هكذا كتاب. لذلك جاءت طروحات الحلول التي يعرضها الكتاب مثيرة للجدل من وجهة نظر القارئ المتخصص.
لا يقول لنا طلال سلمان كيف سينهض مشروع الوحدة العربية في زمن اليأس والهزيمة وهو الذي كبى في زمن الرجاء والامل بالنصر؟ ثم هل يمكن للديمقراطية ان تترعرع في ظل انظمة سلطوية لا مشروعية لها، وهل سيرضى غاصبو السلطة باقامة حوار ديمقراطي يؤدي في نهاية المطاف الى فرض ارادة الشعب؟ على اية حال، ان جماهير العرب ليست معبأة سياسياًَ، وهي غير ملمة بمعايير ومتطلبات العملية الديموقراطية او بأطر اللعبة السياسية في ظل اجواء ديموقراطية.
يهوِّن طلال سلمان من عمق الخلاف بين العروبة والاسلام، ويدعو، من دون تمحيص، الى فض الاشتباك بينهما وكأن صراعهما امر عرضي. ان هذا الصراع هو امر لا مفر منه. لا بد من تحديد هوية (او هويات الناطقين بالعربية) بما لا يدع لاي لبس في المستقبل، قرب ام بعد. ان الاشتباك وان فض بقدرة قادر فانه سيبقى هدنة هشة قابلة للانفجار عند ادنى فرصة سانحة. ان الاشتباك بين العروبة والاسلام اشمل من قتال بين فكرين سياسيين غير متكافئين نظراً لتضعضع الاول نتيجة لهزائم متتالية الحقت بنا باسمه، ثم لتراجعه مرة اخرى تحت وطأة القومية القطرية التي بدأت تحل محله. في حين ان الايديولوجية الاسلامية متكاملة متماسكة نجد ان الفكر القومي ما يزال ضعيفاً ويحتاج الى تركيب عناصره المكونة بصورة اكثر منهجية، وتحديد معاييره بصرامة اشد. ان الاشتباك بين العروبة والاسلام يخفي في طياته صراعاً مريراً لتحديد هويتنا، بعد اندحار استمر على مدى قرون متتالية، اوصله الغرب الى مداه، بتقسيمنا الى دويلات مصطنعة، لا هوية تحميها ولا فكر مستنيراً يدعم بقاءها طويلاً.
لقد اعطانا طلال سلمان كتاباً يقرأ، في اسلوب مفعم بالتحدي، في زمن الهزيمة التي اختيرت لنا ولم نقم بعمل شيء لدرئها عنا، بل انضوينا تحت لوائها مفلتين العنان لغرائزنا كي تنهش لحمنا وتهشم كبرياءنا، وتكاد تقضي على بقية الامل فينا. عسى يكون المستقبل افضل، ودربه اوضح.. وان نقدر على تحقيق كل ما لا نجرؤ حتى على التفكير به في هذا الزمن.
هلال خشان
السفير، 2381995