كل عام وأنتم بخير، مع التمني أن يكون عام يمن وبركات.
نعرف أننا نعيش في قلب الخطر. مع ذلك سنواجه الخطر ونحمي حقنا وحقوق أبنائنا بالحياة في وطن وليس في صالة ترانزيت.
نعرف أن عاصفة دموية تضرب الأوطان والدول في منطقتنا، مع ذلك سوف نتصدى للفتنة ونهزمها بالوعي والإرادة وحب الحياة.
نعرف أن الحكام في دولنا المتهالكة هم بين متجبر عديم الخبرة يكتب الخطأ قراراته ومتسلق رفعته المصادفات إلى السدة في غفلة من الشعوب فإذا هم يدفعون البلاد إلى هاوية الإفلاس.
احترق لبنان، ذات يوم، فما استفادت فلسطين، بل تفجر العداء بين الشعبين الشقيقين، وكان النصر للعدو الإسرائيلي، وسقطت الدولة في أتون الحرب الأهلية.
دخلت سوريا لبنان دولة مهابة الجانب، أساسية في قرارات المنطقة جميعاً، بعد شراكتها مع مصر في قرار الحرب مع العدو من أجل الغد الأفضل للبلاد العربية كلها… وخرجت وقد أصاب دولتها التورّم السرطاني للفساد وضياع هيبة جيشها، في حين أصيبت قيادتها بالصدمة فأضاعت «شعرة معاوية» مما أفقدها التوازن على الحافة بينما غيرها من القادة يتهاوون فيها.
خسرت سوريا ولم يربح لبنان دولته. صار الحكم في لبنان مشاعاً دولياً. شغر موقع الرئاسة فاستمرت دولته بلا رأس. ولما جاء العالم لاصطناع رأس جديد كان رؤساء الأمر الواقع قد احتلوا الأرض وتوزعوها دويلات وإقطاعيات باسم الطوائف والمذاهب وضمانات أمن الأقليات.
نعرف أن النفط قد سرطن هويتنا الجامعة وقيمنا وأخلاقنا ومفاهيمنا، فاتخذنا من النفاق سُلُّماً للوصول السريع إلى السلطة أو إلى الثروة أو إلى كليهما معاً، قافزين من فوق حقائق حياتنا وطموح شعوبنا إلى مستقبل أفضل.
حاولت السعودية أن تقود بذهبها فلم ينشئ الذهب دولاً بل خرّب المجتمعات ومشاريع دول قيد الإنجاز. صار وكيل الذهب أقوى من الدولة.
أخذت الثروة الخليج بعيداً عن أشقائه الفقراء. صار يأخذ لغيره أكثر بكثير مما يعطي… ثم لم يعد يعطي من أجل التحرر والاستقلال والوحدة، بل تورط بعض مسؤوليه في دعم الحركات الانفصالية والفتن الطائفية وتفتيت الأوطان والدول.
شدتنا الثورة الإيرانية بصمودها بوجه الضغوط الأميركية ومجاهرتها بمعاداة عدونا الإسرائيلي. بهرتنا بنهضتها الصناعية وإن ظلت قيافتها الدينية تباعد بينها وبين العلمانية التي تطمح إليها مجتمعات التعدد في الدين والثقافة. ثم انقسمنا حولها فتخندق البعض معادياً، واستمر من اتخذ الجهاد سبيلاً إلى التحرير في العلاقة التي حوّلها الضغط الأميركي إلى تهمة جنائية.
بهرتنا التجربة التركية، فافترضنا أنها تصح مثالاً… لكننا سرعان ما اكتشفنا أن حكم «العدالة والتنمية» مزيج ناجح من الإمبراطورية العثمانية والأتاتوركية، وكلتاهما معاديتان للعرب، شعوباً ودولاً… وها هي الأزمات المتواترة مع سوريا ومع العراق تستولد رياح الحرب بين ورثة «السلطان» والرعايا السابقين الذين ما زالوا يرزحون تحت ركام القهر العثماني ونتائجه بدءاً بسايكس ـ بيكو، مروراً بوعد بلفور، وانتهاءً بعلاقة التحالف المتين بين تركيا أردوغان وإسرائيل نتنياهو.
ظل مقعد القيادة العربية شاغراً مع التغييب القسري لمصر بمعاهدة كامب ديفيد التي قتلت «بطلها» وجاءت بنائبه رئيساً. حاول كثيرون أن يقفزوا إلى هذا المقعد فسقطوا دونه. وهكذا أنشأ بعضهم مقاعد من وهم، وبعضهم من ذهب، وبعض ثالث من الجغرافيا الحاكمة… فسقطت الجامعة العربية سهواً، وظل العرب يفتقدون من يجمعهم ليكون ثمة مقعد للقيادة، ولسوف ينتظرون، بعد، أن يعيد «الميدان» مصر إلى وعيها ودورها وجدارتها مجدداً بالمقعد الشاغر.
ومع غياب مصر سقطت فلسطين على الأعتاب الأميركية، بعدما شلّعها الانقسام وجوّعها الاحتلال الإسرائيلي معززاً ببخل الأشقاء وتخليهم، بل ونوع من التواطؤ على قضيتها المقدسة.
تصدى «العقيد» فلما أعجزته قيادة العرب، اندفع نحو قيادة العالم من فوق عرش ملك ملوك أفريقيا، حتى خرّ صريعاً برصاص الطامع الأجنبي وسلّمت جثته إلى الثوار لطمس الحقيقة وتغييب الشركاء في الجريمتين.
أما «زين» تونس فقد انطوى على نفسه خلف مخابراته القوية، فلما عصفت نار احتراق «البوزيدي» طارت به إلى دار العجزة في مملكة السيف والذهب.
وأخذ الزهو علي عبد الله صالح إلى الافتراض أنه رئيس الحاضر وملك المستقبل وإمام كل الأزمان، فلعب على الجميع وبالجميع، وغامر وقامر… وحين دهمته العاصفة ذهب إلى المنفى المذهّب وهو يضحك من كل أولئك الذين تواطأوا عليه بعدما تواطأوا طويلاً معه، فأورثهم دولة مركبة بسلطنات وقبائل من كل فج عميق.
اختلفت قواعد اللعبة مع بشار الأسد في سوريا فأخطأ الخيار: تصرف كقائد عسكري في أرض معادية حين كان يفترض أن يتصرف كطبيب عيون يعالج رؤية أهله. لم ينفع المدفع حيث كان المطلوب استنقاذ البصر والبصيرة. سال الدم غزيراً. صار طوفاناً يجرف المدن والقرى، الجامعات والمدارس، المستشفيات والمطارات. أطلق الطيران يطارد من دفعوا ثمن الطائرات وتكاليف تدريب الطيارين. زغرد العدو طرباً. أصاب الحزن الأهل والأصدقاء بالصدمة. التهمت الحرائق النصائح وأغرق طوفان الدم العقول ومصادر الحكمة. سقطت سوريا صريعة فتقطعت أوصالها. صار الشمال غير الجنوب والشرق غير الغرب. امحت مدن وهدمت قلاع يسكنها التاريخ والأبجدية الأولى. تهاوت مساجد تحمل أسماء أبطال الفتوحات وكنائس تحفظ خطوات تلاميذ السيد المسيح.
[ [ [
لن يترحّم أحد من اللبنانيين المغلوبين على أمرهم، على سنة لم يتنعموا فيها ببرهة أمان واستقرار، في ظل انفلاش العصبيات وتناقض الخيارات وكلها تؤشر إلى مستقبل مجهول، إن لم يكن قاتم السواد.
لا يترحم أحد من اللبنانيين على سنة كانت فيها لغة رفض الآخر، وإلغاء الآخر، والاستعلاء على الآخر، وكل ما يفرّق، هي السائدة على ما عداها.
لا يترحم أحد من اللبنانيين على سنة شعر فيها الإسرائيلي بفائض القوة فقط لمجرد أنه يراقب كيف تُطارد المقاومة وتُشتم يومياً من قبل بعض اللبنانيين.
مع ذلك سنبقى في أرضنا، نحميها وتحمينا.
وسنبقى نؤمن بأننا جديرون بالحياة… فالإرادة هي ولاّدة الأمل.
وكل عام وأنتم بخير..
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 1 كانونالثاني (يناير) 2013