الرؤية الدينية، المسيطرة على الوعي العربي، فيها وهم السماء أكثر من واقعية الأرض.
يقودنا الوعي السائد إلى إسرائيل وإلى إهمال أنفسنا. عقل محافظ رافض للتجديد وللتغيير. يفضل أن تبقى الأمور كما هي. يصيبه الوهن والضعف. يفضّل أن يقف مكانه. لا يعرف أنه يتراجع. يدرك ضعفه لأنه لم يعرف الإنتصار. الجنة في السماء لا على الأرض. نرتد على نهضتنا. نرفض إكمال مسيرة النهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر. تتخثر مفاهيمنا وتذوي. تصير الهزيمة جزءاً من وجودنا. نضطر الى القبول بما يراد لنا. نعترف بإسرائيل وهي لا تعترف بنا. نرفض العالم وثقافته. يفقد العالم ثقته بنا. التطبيع مع إسرائيل هو توسّع لها. ضمور الوجود العربي وجه آخر للتطبيع. ضمور الحاضر أمام التاريخ. نضع رؤوسنا في الرمل. نزوّر الماضي. لا نهتم إلا بأمجاد الماضي السحيق. نحذف ألف سنة من الماضي. لا ندرك أن الحاضر إستبداد وهو استمرار لحكم المماليك، على عظمة دولة المماليك. لا نعرف متى خرجنا من التاريخ. أنقذنا مماليك مصر وأكراد سوريا من الفرنجة والتتر. ما كان حكم المماليك إلا إستمراراً لحكم صلاح الدين. بعد الإنتصار في اليرموك بخمسماية سنة أنقذنا صلاح الدين في حطين، ثم الظاهر بيبرس في عين جالوت. ليس صدفة أن الحروب الثلاثة حدثت في الرقعة الجغرافية ذاتها، في جنوبي سورية. ليس صدفة تدمير سورية، على أيدينا وعلى أيدي حلفاء استدعيناهم ليكونوا ضد شعبها. في اليرموك إنتصرنا بقوانا الذاتية. في حطين أنقذنا توحيد مصر وسوريا على يد صلاح الدين (الذي يكرهه الشيعة ولا يحبه السنة). في عين جالوت أنقذنا العبيد المعتقون. ثم حكمنا العثمانيون أربعة قرون. دولة مماليك أخرى إنكشارية بعد أن ألغوا فرسان السباهية، فرسان قومهم. كل نظام حكم ينشد التخلي عن مقاتلي قومه والإعتماد على المرتزقة.
لم ندرك أهمية المطبعة. اخترعت في الربع الأخير من القرن الخامس عشر. بعد 50 سنة بدأ الإصلاح الديني (البروتستانتي). تبعته حروب دينية إمتدت قرناً ونصف إلى سنة 1648 (معاهدة وستفاليا). خلال هذه المرحلة صارت الثقافة شعبية، للجماهير. رخص منتجات المطبعة، كتب، جرائد، منشورات، جعلها في متناول الطبقات الأدنى. خلال ذلك، كانت الثورة داخل الإنسان الأوروبي بما يصاحب ذلك من شكوك دنيوية وإلهية. حروب ضارية. بعدها النهوض الأوروبي العظيم. نهوض في الثقافة قبل السيطرة على العالم. الأقوى سيطر. القوة هذه مبعثها انطلاق الوعي بالعالم. والتجاوز الى خارج البيئة الضيقة. مع اكتشاف أن الأرض تدور حول الشمس صار الانسان مركز الوجود. القيم الانسانية صارت تعلو على القيم الدينية. صارت أوروبا جمهورية. ما بقي من ملكيات صار رمزياً. في الشكل ملكية وفي المضمون جمهورية. في الجمهورية الشعب يحكم. الفرد يقرر. يصير الفرد مع الثورة الفرنسية مواطناً. مع المواطن والمواطنة تتغير الدولة إلي غير رجعة. صار الإنسان مركز العالم. تنفصل الدولة عن السلطة. تنغرز الدولة في وعي المواطن. لا يصير الرعايا مواطنين إلا بانغراز الدولة في وعي الأفراد. في ضميرهم. الفرد يصنع الدولة. المجتمع يصنع السلطة. النظام معرض دائماً للسقوط أمام الجماهير. تبقى الدولة إطاراً مجرداً يستوعب كل المواطنين. صارت السياسة مجال إدارة المجتمع وتسوية نزاعاته. تبقى الدولة فوق النظام. النظام يتغيّر. تغيره حركة دائمة. الدولة إستقرار في الوعي. سكون واستمرار.
في الغرب ومع ولوج المواطنين باب السياسة نشأت الدولة الحديثة. هي مجموع المواطنين. هي الإطار الناظم للمجتمع. هي الإحتمال الديمقراطي. السياسة لا بمعنى الصراع على السلطة بل بمعنى إدارة شؤون المجتمع وفك نزاعاته. شكّل ذلك نقطة تحوّل عظيم في البلدان الديمقراطية. لم يحصل ذلك منةً من النظام على الناس بل بضغط من الناس على النظام. الناس كمواطنين يشكلون الدولة لا النظام يشكلها.
في بلادنا تطور نظام الرعايا القديم الى نظام مماليك. كما كل دولة، منذ العباسيين إلى اليوم. خسرت ثقة شعبها بها عندما أبعدت شعبها عن السياسة. وصارت تعتمد العبيد المعتقين بعد أن تتم تربيتهم على الدين والقتال في أيام الأمويين والمماليك والعثمانيين (الإنكشارية نوع من العبيد المعتقين).
لم يحدث النقاش العظيم بين السنة والشيعة، وبين السنة والسنة، وبين الشيعة والشيعة، حتى في مرحلة الإستعمار الليبرالية. جاء الإستقلال في أعقاب حرب تحرير شعبية، حقيقية أو موهومة، وبقي الناس رعايا. إستفادت أنظمة الإستقلال الجديد، خاصة منذ الخمسينات، من كون الرعايا لم يتحولوا إلى مواطنين. لم تصبح الدولة إطاراً ينتظم فيه المجتمع، بجميع تناقضاته. إستبداد يمنع النقاش. هذا صحيح، لكنه يمنع أيضاً التطور نحو المواطنة. تلاحقت الإنقلابات العسكرية من فوق المجتمع، وكأنها الصراعات القديمة بين السلالات، دون المس بتركيبة المجتمع، دون الإنتقال من دور الرعايا إلى دور المواطنية. بقي الناس هم الرعايا، بينما السلطة تعتمد على مماليكها الجدد. عبودية جديدة. بقي الناس رعايا علي بك الكبير (زعيم مماليك مصر في أواخر القرن 18)، ولم يصيروا مواطنين. تشكلت الجيوش من مماليك جدد برغم المظاهر الناقضة لذلك (يكفي أن نلاحظ كيف يعامل ضابط عربي جنوده باحتقار كي ندرك ذلك). المماليك – الرعايا لا يناقشون ولا يشاركون. ليس لهم إسهام في القرار. هم مجرد رعايا يطيعون ويستسلمون. من يستسلم للإستبداد يستسلم لإسرائيل.
أنظمة التحرر والتقدم لم تتقدم بالمجتمعات خطوة واحدة. مارست القمع كي يعود العسكر أشبه بالإنكشارية، والناس رعايا. هم خارج إطار النظام والدولة. إنتصرت إسرائيل عام 1948 وما بعدها، ليس لأن العرب كانوا الأضعف بل كانوا الأقوى، أعداداً وعدة. إنتصرت لأن الدولة والمواطنة والاحترام المتبادل والنقاش الحر غابوا عن هذه المجتمعات. لم تتقدم أنظمة التحرير خطوة إلى الأمام بل تراجعت بالمجتمع خطوات إلى الوراء. نتج عن ذلك ضعف المجتمع والدولة. صارت الهزيمة جوهر الكيان العربي أو ما يسمى المنظومة العربية.
برغم مظاهر الثورة التي كانت سلسلة إنقلابات عسكرية تتوالى دون أن تُعنى بالمجتمع ودون أن يكون للمجتمع علاقة بها، كان على المجتمع إما أن يخضع للإستبداد، وقد فعل، فهناك سلاطين جدد، وإما أن ينغلق على نفسه مستخدماً العدة التي لديه وهي دينية في غالب الأحيان، وقد فعل. ما سمي صحوة دينية كان في الحقيقة تراجعاً إلى عصور مضت. صار للسلفية، السنية والشيعية، مبرر لإغلاق المجتمع. أنظمة إستبداد (مع شعارات حديثة) ضد مجتمع مغلق سلفي في معظمه. ما حدث من تطور ثقافي في القرن التاسع عشر، وتقدم إجتماعي في القرن العشرين في جو ليبرالية حكمها الاستعمار، صار تراجعاً. عادت المجتمعات إلى عصبياتها القديمة بعشائرها ودينها السلفي. وعادت الأنظمة إلى إنكشارية العثمانيين ومماليك العصور السابقة. يدخل في ذلك الإخوان المسلمون وبقية السلفية، ونظام الثورة الإسلامية في إيران، وتركيا تسير على هذه الطريق. في أنظمة التحرر الوطني، تحررت السلطات الحاكمة لكن المجتمع عاد القهقرى.
لم يحمل التحرر الوطني معه أية حرية للأفراد أو المجتمع. كلاهما أصبح أقل حرية مما في أيام الاستعمار. على كل حال، كانت وتيرة التقدم الإقتصادي في القرن العشرين أقل مما كانت عليه في القرن التاسع عشر (روجر أوين). يدخل النفط في ذلك. عندما ارتفعت أسعار النفط في منتصف القرن العشرين زاد الإستهلاك. وبقي المجتمع العربي غير منتج.
الدين ليس وجوده ثابتاً. يتطوّر حسب الظروف الاجتماعية والسياسية. هذه الظروف أصابته بنكسة. لم يتطوّر نحو الدين المدني كي تصير الدولة مدنية. بقينا على دول ومجتمعات تعيش في الحقبة الماضية أو ما قبل. مع ذلك نشأ دين جديد تحت مسمى النهضة الإسلامية. إنتهت هذه إلى صراع بين السنة والشيعة. لكنها كانت حرب الدين على المجتمع. حرب أدت إلى إغلاق الوعي، وإلغاء العقل، وإلغاء دور المجتمع. الصحوة الدينية كانت إنتكاسة. ردَّة إلى الوراء. زادت في تعميق الهزيمة بما في ذلك قيام دولة إسرائيل. إختل العقل العربي فانغلق على نفسه.
إستبداد سياسي يقابله إستبداد ديني. كل منهما حاصر الوعي والعقل. كان الإستبداد بحاجة إلى دين جديد. والدين بحاجة إلى استبداد جديد. كل منهما يكمل الآخر. بقي مفهوم الدولة غائباً، ومفهوم السلطة حاضراً. بقي المجتمع خارج الدولة والسلطة. بقي الفرد يتقيّد بالوعي الجماعي. دين يبرر الإستبداد. إستبداد يحتاج الدين من أجل الشرعية مع أن كلاهما فاقد الشرعية الجماهيرية. الإستبداد خروج على ضرورات المجتمع المفتوح. السلفية لا تُعنى إلا بالسماء. هزائم على الأرض. إنتصارات جزئية للدين أدت الى أوهام النصر الكبير. الواقع مقفل. مجتمع من دون هوية. صراع على الإسلام. القبض على الإسلام. لا صراع داخل الدين كي يصنع الإنسان هويته. ما زالت المطبعة ممنوعة. إنتاج المطبوعات يحصل بكثرة. المطبوعات الجديدة بمعظمها إجترار للقديم. ما هو ممنوع هو حرية التعبير. لكن ما جدوى حرية التعبير إذا لم تكن تحكي عن نفس جديدة. النفس المقموعة بالإستبداد السياسي لا تنتج جديداً. خلل العقل والوعي هو أنه لا يتحرّك. مثقفون يمدحون أمجاد الفتوحات. لا يجدون في الحاضر ما يمدحونه. سُمِحَ بالمطبعة ومُنِعَ الطبع على من يتمتع عقله بالقدرة على النقد والتجريح. يرتد ذلك على العقل. فلا ينتج وعياً غير ما هو مرسوم له. لا يكتفي الرقيب بمنع الرأي، بل كل رأي يخالف الطاغية وتعليماته. ينزوي العقل، يدور على نفسه. لا ترده إلا المعلومات التي يفيد بها الطاغية. هذه مشكوك فيها. الدين المتحالف مع النظام يفعل الشيء نفسه. لا يقدم الرقيب إلا أفكاراً واجتهادات مكرورة، مجترة، ومجتزأة. قليل من المثقفين من يثق بنفسه ويقول معبراً عن ضميره. يعرّض نفسه للسجن والقمع والتعذيب وإلا فإنه مضطر للإنغلاق على نفسه أو السير في ركاب السلطة. الأمران سيّان.
في القرن التاسع عشر، كانت الهوة بيننا وبين الغرب تقنية. لم نكن نحتاج لأكثر من خطوات عملية لردمها. كان وعينا النظري متقدماً. نترجم الألياذة كما نقرأ كتب الغزالي. نساؤنا حاسرات الرأس. يتحضرن لمرحلة ولوج سوق العمل والإنتخاب وحيازة المساواة مع الرجل. التراجع عن ذلك حصل في القرن العشرين عندما سيطر الإستبداد الديني والسياسي. وسيطر مفهوم الأمة مستعلياً على مفهوم الدولة. فانتهينا إلى دول غير شرعية في معظمها. كان للدين زاوية في المجتمع. صار هو قاعدة إعادة تركيب المجتمع تحت شعار تطبيق الشريعة. أُريد أن تكون الشريعة دستوراً وقانوناً. هذا الأمر من سابع المستحيلات. طبيعة الشريعة لا تسمح لها بأن تكون دستوراً أو قانوناً. بناء الدولة الحديثة يحتاج إلى القوانين المصنوعة إنسانياً وإلى الدساتير المصنوعة إنسانياً. القيم الإنسانية لم تأخذ حقها ليكون لها الأولوية على القيم الدينية. تقدمت السماء على الأرض والمجهول على المعلوم والمستحيل على الممكن. تأخر العقل العلمي والنظري. إنتشر العقل التقني دون أن تكون لدينا تكنولوجيا الإنتاج. طبقنا التكنولوجيا على الدين لا على المعطيات الطبيعية. أصبح دين طقوس وليس دين إيمان. فقدنا ملكة التهذيب والأهم أننا فقدنا ملكة الأخلاق. من يحتال على الدين بالطقوس ينجح بالإحتيال في الحياة اليومية. عزفنا عن التفلسف. فقدنا الآخرة والدنيا. كانت الهزيمة حتمية. الإحتيال قادنا مرة أخرى كي نصنع من الهزيمة نصراً. صرنا نطلق الأكاذيب ونصدقها. نحن شعب عظيم، إذن ننتج المعجزات. سيطرت عقلية السحر لا العقل. ملأ الدين فراغ العقل. حشوناه تبناً.
مع تراجع الإقتصاد عموماً، والزراعة خصوصاً، والصناعة بكل تأكيد، صرنا نستورد المواد الغذائية لأول مرة في التاريخ. تحولت أهراء الامبراطورية من التصدير إلى الإستيراد. مع النفط كثر استيراد السيارات وغيرها. كذلك المصنوعات الحربية والترفيهية. صار الإستيراد لا الإنتاج هو من يقرر النماذج العقلية. لم نجد حرجاً في إستيراد منتجات الغرب. عزفنا عن إستيراد ثقافته. هكذا إنغلقت المجتمعات وتعطلت عن العمل والتطوّر. عندما تكون عاجزاً تخضع لما يُراد لك. أُريد لنا التطبيع. فرضته أميركا بعد أن زال لديها كل إحترام لنا ولمشاعرنا. من يحترم المهزوم؟ الهزيمة فرضت التطبيع. هزيمة على جميع الصعد: العسكرية والثقافية والإقتصادية والإنتاجية.
ما دامت البطولة نبحث عنها في صحائف الماضي، ونقرأ صفحات صفراء عن التراث، ولا نصنع ما يفيد من الأشياء، سيكون التطبيع أمراً اعتيادياً.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق