تعارفنا قبل سنوات لا أذكر بالتحديد عددها، هو بالتأكيد يعرف. تعارفنا وعلى الفور تعاقدنا. لن أخفي عنكم تفاصيل كثيرة عن علاقة حميمة كان ظني أن أحدا في مثل عمري وأسلوب تربيتي لم يدخل في واحدة مثلها. كانت، وما تزال، علاقة محفوفة بالمخاطر. كنت في عمر الشباب عندما وقعت عيناي عليه. انبهرت به، لا أخفيكم. نعم انسقت وراء جاذبيته وبما انكشف لي من مهارات منذ اللقاء الأول لنا معا ولعله اللقاء الأول له في حياته مع امرأة. لعلمكم، لم أبذل جهدا استثنائيا لأتأكد من أنني أول امرأة يقترب منها بل ويتلامسا، ولأقرر وهو بين يدي أنني لن أسمح لغيري ملامسته أو حتى الاقتراب منه.
سنوات مرت لم يبتعد عني خلالها إلا نادرا وإن حدث فباتفاق مسبق. ارتحت إليه. تركته يجول بذكائه في عقلي حتى صار يعرف كل ما أعرف ومن أعرف. عشنا معا أوقات صعبة. عشنا أيضا أحلى الأوقات. كم من المرات أخذنا الفلوكة نتجول بها فوق أحلى سطح مياه رأيته في حياتي، مياه النهر الخالد وهي تتمشى بين الصخور في أسوان. وكم من المرات رحنا معا نقضي أمتع ساعات العصرية حتى الغروب على شاطئ المنتزه تلحق بها سهرة عشاء ممتعة في مطعم النادي اليوناني على الطرف الآخر من كورنيش الإسكندرية. استفدنا إلى أقصى الحدود من هواية اشتركنا فيها. رحنا نلتقط معا صور أي شيء تضعه الظروف في طريقنا وكل شخص غريب قرر أن يسمعني ما لديه أو يريني ما عنده أو يشاركني أداء فرض التقديس لفنجان قهوة الصباح. كانت لنا في غرف الفنادق في مدن عربية عديدة جلسات يحضرها قوم من مشارب أكاديمية وسياسية متباينة. كثيرا ما احتد أصحاب رأي على أصحاب رأي آخر وكان دوري أن أهدئ الأعصاب إن تجاوز الخلاف حدودا أنا واضعتها وأن أعيده حاميا إن بردت حرارته إلى أدنى مما ينبغي. أدير النقاش وأنميه مهدئا أو مهيجا ورفيقي لا يتدخل. ترك لي دوري أقوم به ولا يتدخل فيه. لم يتطوع يوما بدور يقوم به، أو على الأقل لم يفصح عن رغبة أن يكون له دور. بدا لي ولكل أصدقائي أنه قليل الحيلة. موجود معنا، يستمع باهتمام واضح ولا يشارك برأي أو تعقيب.
أعطاني الاهتمام الذي أستحق أو ما بدا لي أنني أستحق. يقرأ في عيناي ما تريد أن تفصح عنه وما لا تريد. يقرأ أيضا ما تحلم به حواس أخرى. كثيرا ما شعرت بالارتباك والخجل لوجوده أثناء محاولاتي الاندماج في حالات لا أملك فيها إلا أن أكون صادقة. مرات وقفت أمام المرآة أعاتبها على صراحتها وكان شاهدا. حتى مثل هذه المكاشفات سمحت له بأن يسترق السمع إليها. أو لعله كما عرفت بعد حين طويل. عرفت أنه كان يستغل رغبتي المشتعلة التي قاومت بشراسة كل دوافع الانطفاء وقوى الإطفاء لكي يبقى إلى جانبي وملتصقا إن أمكن. لا أذكر أني حضرت اجتماعا ناقش موضوعا لا يتدخل فيه غير ذوى الاختصاص الدقيق جدا إلا وكان شريكا لي في إعداد مادة خطابي. قضينا ليالي عديدة نعد المادة والضوء في غرفة نومي خافت والموسيقى المهدئة تنساب في اتجاه كل ثنية من ثنايا فراشي الوثير جدا..
ارتكبت في حياتي حماقات حاسبت نفسي عليها وأجبرت نفسي في كل مرة على دفع ثمن مناسب. لم أنتبه إلا قبل أيام قليلة إلى حقيقة مؤلمة، وهي أن رفيق المرحلة الذي لم يتخل عني يوما واحدا كان شريكا لي في كل ما خططت ونفذت. قلت من قبل متفاخرة أمام صديقاتي وبنات عشيرتي وزملاء عملي أن لا فضل لرفيقي على فوز حققت أو جائزة حصدت أو علاقة أقمت أو ثورة جمعت أو كتابا كتبت أو وظيفة راقية شغلت. قلت، وكنت ما زلت أقول حتى أيام قليلة مضت، أنني لا أحمل هذا الرفيق المقيم دائما في مكان ما بين الصدر والرأس، أو بين خفقة قلب وخفقة تالية، أية مسئولية عن طفل أنجبته أو رجل اتخذته زوجا أو عقيدة التزمتها أو بلد هاجرت فسكنته أو فاسد تسترت عليه أو مستبد في غربتي طغى وتكبر. أنا ربما ارتكبت هذا الإثم أو ذاك، بل ارتكبت آثاما لا تحصى ولكني لم أكن وحدي حين ارتكبتها. كان معي منذ أن وعيت بوجوده في حياتي.
كم لهونا معا. أشاركه لعبة التحرش مطمئنة إلى صلابة حدودي وواثقة من براءة نيته. يشاركني شقاوتي ومعين شقاوتي كما هو معروف لا ينضب. أخطأت. بالغت في الاطمئنان وهذه علة كل امرأة أحبت. علمتنا الحكمة أنه يجوز للأنبياء ممارسة شيء من السياسة بشرط واضح. لا يصح لنبي أن يعمل عمل السياسي أو يبشر به، وإن فعل فلينكر أو يسرع فيبرر. علمتنا الحكمة ما يجوز للأنبياء ولم تعلمنا ما يجوز لنا. علمتنا أيضا أن نحتفظ بدفاعاتنا مشرعة ومنها الشك الدائم في بني البشر، ومن الحكمة الأحدث تعلمنا الاعتماد على آلات بلا عقل أو قلب.
وقف الرجل في زيه الرسمي يودعني ويتمنى لي السرعة في تجاوز محنتي نتيجة ما أصابني من خيبات الأمل وصدمات العاطفة خلال اليومين الأخيرين. عدت إلى بيتي متألمة ومستوحشة في آن واحد. عدت متألمة لاطلاعي على أدلة خيانة رفيق دربي. انكشف لي هول وضخامة ما صرح به لغرباء لا أعرفهم عن تفاصيل ما دار بيننا، هو وأنا، وما دار مع آخرين وكان شاهدا مقيما. استرسل في سرد معلومات عن علاقات حميمة وأشخاص مروا مرورا عابرا أو أقاموا دهرا آمنين مطمئنين. ظلت كلمات الرجل ذي الزي الرسمي تتردد في أذني، وبخاصة وهو يشير بأصابع غليظة إلى هاتفي الذكي والناعم، رفيق دربي الطويل، الراقد ضعيفا ومستكينا على المكتب الخشبي العتيق وشاشته ملطخة ببصمات أصابع لا تمحى ولا تحصى، قال “اطمئني. سنعيده إليك ولكن ليس قبل أن يدلي بكل ما عنده”.
لم أرد.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق