لم يعش اللبنانيون في قلب الخوف كما هي حالهم اليوم،
إنهم يخافون من أنفسهم، من بعضهم البعض، من أحزابهم والمنظمات، من حكومتهم والقيادات، من إسرائيل، من الخارج قريبه والبعيد،
إن الأب يخاف على أبنائه مرتين: يخاف أن يجرفهم التطرف بعيداً عنه، ويخاف أن يداهمهم تطرف الآخرين في بيوتهم، في جامعاتهم، في منتدياتهم فيأخذهم إلى ما يتهددهم في يومهم وفي مستقبلهم.. ويخاف عليهم من الانتخابات التي قد تأخذهم إلى الاشتباك!
إن المدرّس يخاف من تلامذته، ويخاف عليهم، سواء كانوا في التكميلي أم في الثانوي أم طلاباً على باب التخرّج من الجامعات… بل لعل الخوف يصبح أعلى كلما صار مستوى الدراسة أعلى .
إن الموظف يخاف من زميله، ويخاف من المواطن الذي يأتيه ملاحقاً لمعاملة تخصه. يخاف من سائق السرفيس (الذي بدوره يخاف منه) ويخاف من الشرطي (إن هو شك في انتمائه إلى غير منطقته)، بينما الشرطي لا يقل عنه خوفاً.
إن التاجر يخاف من التظاهرة التي قد توقف حركة البيع والشراء، ويخاف من الإضراب الذي قد يولّد الاضطراب فيجرف رزقه ويدفعه نحو الكساد ومن بعده الإفلاس،
إن الجار يخاف من الجار، والصديق الذي بات يستريب بموقف صديقه صار يتحفظ في الكلام معه وأمامه، ولعله بات يتحاشى لقاءه حرصاً على استنقاذ الود المقيم من أن يذهب به الخلاف… السياسي، الى ما هو خارج السياسة!
إن صاحب المؤسسة الذي ضمانته الاستقرار يخاف من الإفلاس بسبب جو الإنذارات والتهديدات التي لا تتورع عن اتهام الأخ الشقيق بالتخطيط لترويع أهله،
إن العامل في مصنع، أو في معمل صغير، في متجر أو في شركة خدمات يخاف من أن يصبح في الشارع، بلا دخل يقيم أوده، فإذا كان رب عائلة زاد خوفه وافتقد الأمان.
إن اللبنانيين جميعاً يعيشون، هذه الأيام في قلب الخوف: يسمعون الإذاعات فيرتعدون فرقاً، يسهرون ليلهم مع المقابلات والمواجهات التلفزيونية بين أصدقاء الأمس وحلفاء أمس الأول، والشركاء في الغد بالاضطرار، فيحرمهم الخوف من النوم..
كيف لهؤلاء اللبنانيين الذين خاضوا غمار مسلسل من الحروب الأهلية/ العربية/ الدولية على امتداد ثلاثين عاماً، تخللتها بعض الانفراجات، أو أنهم وُلدوا في قلبها واكتووا بنيرانها رجالاً مقاتلين (ولو بالإكراه) أو شهوداً بالاضطرار، أو فتية يافعين انقسموا على أنفسهم فذهب كل في اتجاه تحاشياً للتصادم..
كيف لهؤلاء اللبنانيين الذين تضيق ذاكرتهم بفصول المأساة الدامية التي عبروها فالتهمت أعمارهم أو أهلهم أو نجوا بالمصادفة، أو الذين تطاردهم ذكريات أيام الماضي السوداء، أن يأخذ الخوف بتلابيبهم، هم الذين افترضوا أنهم قد قهروا الخوف وأنهم قد تحرّروا منه؟!
إنه خوف وطني عام يمتد من أدنى الأرض اللبنانية إلى أقصاها، ويحلّق في الجو فيرخي عليهم ظله الثقيل… في القرى، في الدساكر، في المدن بأحيائها الموحدة أو المشروخة القلب كبيروت، يتنفسون الخوف. يخافون من الآخرين، يخافون من
أنفسهم، يخافون من أفكارهم. يخافون من الأجنبي. يخافون من تقاعس العربي.
اللافت أنهم اليوم يخافون من إسرائيل أقل ممّا كانوا يخافونها على امتداد دهور الهزيمة، لكنهم بالمقابل يخافون من انتصارهم عليها بقدر ما يخافون عليه.
يخافون من الحكومة، يخافون من المعارضة، يخافون على الدولة، يخافون على النظام، يخافون على الكيان. يخافون من الهجرة، ويخافون على شبابهم إن هم بقوا، ويخافون عليهم إن هم هاجروا فيخسروهم ويخسروا مع غيابهم حلم الغد الأفضل.
.. والخائف لا يطمئن خائفاً، لذا يعم الخوف الناس: حتى مَن يفترض أنه مخيف هو في أعماقه خائف. إنه لا يحب أن يكون (في الداخل) مخيفاً… وهو يخاف من خوف الآخرين منه، ولا يعرف كيف يطمئنهم فيخاف من نفسه أكثر من خوفه عليهم.
.. مع ذلك فإنني أزعم أن لا سبب، جدياً، لهذا الخوف إلا ضعف الثقة بالنفس التي تستولد ضعف الثقة بالآخر.
وأزعم أن لا سبب لهذا الخوف إلا ضعف الثقة بكفاءة القيادات. فالقيادة المؤهلة لا تحتاج إلى التخويف للاعتراف بشرعيتها.
القيادة المؤهلة لا تخاف ولا تخيف.
ومن أسف أن النقص في القيادات المؤهلة هو أعظم أسباب الخوف.
مع ذلك فهذا الشعب الذي أثار الإعجاب بصموده، مقاومة ومواطنين طبيعيين، في مواجهة الحرب الإسرائيلية التي امتدت ثلاثة وثلاثين يوماً، قادر على أن ينتصر على خوفه إذا ما استذكر قدراته ولا سيما منها قدرته على التمييز بين ما يضمن حياته مع إخوته، ولو مختلفين في الرأي معه، وبين ما يتسبّب بالضرر.. الوطني العام.