حزنت حزناً كبيراً للأجواء المؤلمة التي سادت في الفترة الاخيرة بين بعض المحامين وبعض القضاة، الامر غير المسبوق، والذي نرفضه شكلاً واساساً لما تعكس هذه الاجواء من اضرار تصيب طبيعة العلاقة بين المحاماة والقضاء، تكون من نتائجها التأثير المباشر بتعطيل مبدأين اثنين: الاحترام المتبادل بين جناحي العدالة، والود المتبادل بينهما وقد كرستهما النصوص والاعراف وتقاليد مهنة المحاماة وكذلك النظم القضائية وتراث العمل القضائي وقواعده.
لقد اكدت قوانين تنظيم مهنة المحاماة في لبنان وباقي الدول العربية على ان تكون علاقة المحامي بالقضاء وبالعكس قائمة على التعاون باعتباره جزءاً من اسرة القضاء، ولنقيب المحامين دور رئيسي وبارز في اي شكاوى ادارية وقضائية تتعلق بالمحامين والقضاة. ففي لبنان تعلمنا من كبارنا ان في مراجعتهم الطريق الصحيح للوصول الى النتائج المرجوة تحت سقف العدالة والاحترام والود في مثل هذه الامور، وفي المغرب، مثلاً، على المحامي واجب استشارة النقيب، وفي الاردن عليه اخذ اذن خطي من النقيب بشأن اية مخاصمة او شكوى، وفي مصر على المحامي الذي يرى ان الهيئة التي يباشر عمله امامها مست كرامته او كرامة المحاماة ان يرفع الامر للنقيب الذي لا بد ان يبادر لحل اي اشكال يمكن ان يكون قد حصل.
هكذا تراكمت ورست القواعد ومعها تراث العلاقة بين القضاء والمحاماة.
وفي تاريخ العلاقة هذه كان نقباء المحامين في العالم يقومون بدورهم في المعالجة الحكيمة التي تؤمن وتخفظ الكرامات، وتؤكد على القواعد والثوابت، ويتم ذلك بعيداً عن الضجيج والصراخ والانفعال والتدابير والاجراءات غير المقبولة بالتعاون مع الهيئات القضائية التي لم تكن لتتأخر في حسم الموقف كما نقابات المحامين.
ومن المفيد جداً ان نؤكد ايضاً هنا بأن اللوائح والمذكرات والمرافعات التي يقوم بها المحامي امام القضاء، والمرتكزة على الاستعانة بالنصوص القانونية والاجتهادات القضائية والفقه مع الاشارة الى تطبيقها او عدمه في قضية ما، فإنها ولا شك تبني ثقافة قانونية متبادلة بين القاضي والمحامي تساعد وتؤثر تأثيراً مباشراً وايجابياً في دقة الاحكام والقرارات وحسن سير العدالة في مضامينها.
ونؤكد ايضاً وايضاً ان التدابير والاجراءات العملانية المتعلقة بالتبليغات ومواعيد الجلسات والدقة في انعقادها والالتزام في وضع جدول الدعاوى والتقيد بأصول المحاكمات، والحضور الدائم للقضاة الى قصور العدل وعدم اقتصارها على يوم واحد في الاسبوع وذلك الى حين تطبيق التبادل والمرافعة عن بُعد، وفي حال مخالفة يعرقل سير العدالة.
ونؤكد بكل الوضوح بان القضاء والمحاماة هما جناحا طائر واحد، وان القضاة والمحامين يؤلفون عائلة واحدة وهذا صحيح، جد صحيح، ولكن اذا كان احد الجناحين مهيضاً كيف يتهيأ للطائر ان يطير؟ واذا نشأ سوء التفاهم في العائلة الواحدة كيف يستقيم العيش العائلي الهانئ؟
ويقال بانه “قلما يشارك المحامون القضاة التحسس بالمصاعب والازمات الضميرية والاخطار التي يلقونها في العمل”.
ولكن في المقابل من ذا الذي يستطيع ان يقول ان القضاة ـ جميعاً ـ يشاركون المحامين متاعبهم في ظروفهم العادية ولا نقول في ضرائهم!!! انه يؤسفني ان اقول ان بعض القضاة قلما يشاركون المحامين مصاعبهم والازمات الضميرية التي يجتازونها بل ان بعضهم ـ واشدد على كلمة بعضهم ابرازاً للاستثناء ـ لا يفعل.
انه لا يصح في فهمي ـ مثلاً ـ ان يكون المحامي وحده هو الذي يدفع ضريبة التأخر في حضور الجلسات في حين يبقى القاضي بمنجاة من المؤاخذة اذا تأخر في عقدها بلا سبب.
واني اتصور ـ وتتصورون معي ـ اي الم يحز في نفس المحامي اذا اغفل القاضي الرد على جميع الاسباب المطروحة او لم يجب على كل مطلب او لم يبين الاسباب الملائمة في حكمه إعمالاً لما ينص عليه قانون اصول المحاكمات المدنية والجزائية.
واتصور ـ وتتصورون معي ـ اي عنت يلقاه المحامي اذا ضاق القاضي ذرعاً بمرافعته الشفهية ضيقاً غير مبرر فقاطعه بالسؤال التقليدي: والان ما هي مطالبك يا استاذ؟؟
من اجل كل ذلك ومنعاً من استعمال هذه الحالات الشاذة التي شهدناها في الايام الاخيرة ندعو الى:
اولاً: العمل على تدريس وتثقيف المحامين الزامياً، خاصة الذين انتسبوا حديثاً للنقابة وصولاً الى من مضى على انتسابهم للمهنة عشرون سنة، العمل على تدريس قانون تنظيم مهنة المحاماة والنظام الداخلي بما فيه نظام آداب المهنة ومناقب المحامين الذي وضعته لجنة برئاسة نقيب المحامين السابق ريمون عيد بناء لطلب المرحوم النقيب ميشال ليان وموافقة مجلس نقابة المحامين في بيروت برئاسة النقيب ريمون شديد، وهذا التدريس والتثقيف لا بد ان ترافقه تطبيقات عملية لمشاكل وحوادث ومخالفات يطرحها المحامون اثناء ذلك حاصلة معهم من خلال ممارستهم للمهنة.
ثانياً: تدريس وتثقيف القضاة مع تمارين عملية مكثفة وفقاً لما يحصل في معهد الدروس القضائية، وخضوع المتخرجين ايضاً لدورات سنوية وفق رزنامة توضع لهذه الغاية للتأكيد الدائم على القواعد الاساسية لاخلاقيات القضاء، وكذلك على الدليل الى واجبات القضاء واخلاقياته التي اوعز معالي الدكتور بهيج طبارة الى لجنة شكلها لوضع هذه القواعد والدليل كذلك من الرؤساء فيليب خير الله وطانيوس الخوري وغالب غانم وطارق زيادة والتي وضعت بشكل حاسم وجازم المبادئ لكل ذلك وهي الاستقلال، والتجرد، والنزاهة، وموجب التحفظ، والشجاعة الادبية، والتواضع، والصدق والشرف، والاهلية والنشاط، وقد تبنت هيئات التفتيش القضائي العربية من دون اي تعديل هذه القواعد والدليل.
ثالثاً: وقف اصدار البيانات من نقابتي المحامين في لبنان ومن مجلس القضاء الاعلى لان ذلك لا يفي بالغرض المنشود ولا يحل اشكالاً، وكذلك وقف سيل المقالات التي تصدر بالخصوص من اي جهة كانت للسبب ذاته.
رابعاً: وضع اجندة للنقاش الدائم بين مجلس القضاء الاعلى ونقابتي المحامين ينظر بها شهرياً لمحاسبة كل ما يسيء الى العلاقة بين المحامين والقضاة وحل القضايا العالقة.
خامساً: تطبيق مبدأ الثواب والعقاب على المحامين والقضاة من دون تضخيم او تشهير.
بذلك كله نستطيع ان نبني محامياً وقاضياً نموذجياً نؤمن من خلالهما استقلالية القضاء وحسن سير العدالة وسيادة حكم القانون.
الأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب