قبل نصف قرن او يزيد كنت قد “نزلت” بيروت طالبا.. وكان عليّ أن اعبر ساحة البرج لأركب “الترامواي” رحم الله أيامه، قاصداً مكان عملي في فترة بعد الظهر. وكان حشد العابرين عظيماً، اذ كانت أطراف هذه الساحة مقر انطلاق “البوسطات” إلى القرى والدساكر البعيدة عن العاصمة.
كانت جمهرة من باعة الصحف تتجمع في ساحة الحشد البشري، وكل البائع يرفع بينماه صحيفة الظهر، ويتناوب مع زملائه ـ منافسيه ( الطيار ـ اليوم ـ لسان الحال) على اطلاق النداء بالعناوين المثيرة: “صورة اللي قتل اخته في بعلبك..” و”صورة مطاردة الطفار في جرود بعلبك” او “قتيلان في عملية ثأر في بعلبك”.
كنت أتألم حتى الوجع وأنا أرى الجمهور يتخاطف هذه الصحف، وقد ثبت في يقينه أن ليس في منطقة بعلبك الا القتلة والطفار وحقول الحشيشة.. فانا اعرف أن الاغلبية الساحقة من “البعلبكيين” تعمل بكامل طاقتها للتغلب على واقع الفقر والاهمال ومحاولة تحسين دخولهم من المهنة الوحيدة التي نشأوا عليها، كابراً عن كابر، في حمى ارضهم، وهي الزراعة.
كذلك فأنا اعرف يقينا أن تلك المنطقة قد سقطت من ذاكرة الدولة، فلا كهرباء فيها، ولا مياه للشرب، ولا طرقات معبدة.. بل ولا مخافر للدرك، التي تختار القرى من لون طائفي محدد لمخافرها “لتزكية” الحساسيات الطائفية، واشعار الاقليات الطائفية في قراها بعدم الامان، واشعار الاكثرية أن الدولة ليست دولتهم وبالتالي فهي غير معنية بمستوى حياتهم، فضلاً عن أمنهم، وتغض الطرف عن انتشار السلاح طالما انهم لن يستخدموه الا ضد بعضهم البعض..
في هذه الايام، وبعد أكثر من ستين عاماً، تطالعنا الصحف وشاشات التلفزة، صباح مساء، بصور تؤكد الفلتان الامني في “بلاد بعلبك” بل وفي مدينة بعلبك، ذات القلعة الشاهد على تاريخها العريق، ومن حولها، وسقوط الضحايا، قتلى وجرحى يوميا… مع أن قاصدي تلك المنطقة المجهولة والبعيدة (70 كيلو متراً عن بيروت) قد تراجعت اعدادهم، اصلاً، الا انهم اليوم ينبهون على ابنائهم أن يتجنبوها لان الأمن “فلتان” فيها.
في بعلبك، الآن، ثكنة للجيش، وفصائل او سرايا للدرك والامن العام والمعلومات والمخابرات الخ..
ومن حول بعلبك وداخلها حشد من العشائر، شمص، زعيتر، علو، دندش الخ، هجروا قراهم وجاءوا إلى المدينة طلباً للزرق.
وداخل بعلبك عشرات الآلاف من السكان، زادت اعدادهم كثيراً نتيجة عمليات التهجير التي ضربت سوريا فأفرغت منطقة الحدود القريبة من مدينة الشمس من سكانها… وهكذا تجاور اللاجئون السوريون مع اللاجئين الفلسطينيين الذين “رموا” في بعلبك، على قاعدة مذهبية، بعد “النكبة”.. (ترى كم بات في تاريخنا من نكبات؟!).
الملفت انه كلما زادت اعداد القوى الامنية في المدينة ومحيطها والطريق اليها، زادت الفوضى الدموية فيها وفي محيطها، بحيث بات مشروعاً الافتراض أن الفلتان الامني مقصود وله اغراض.. سياسية!
من الظلم، طبعاً، رمي المسؤولية كاملة على التنظيمات السياسية في المدينة (وتحديداً “حزب الله” و”حركة امل”..)
وتجدر المقارنة هنا بين الاوضاع في الجنوب والاوضاع في بعلبك ـ الهرمل، حيث يتمتع هذا التنظيمان بوجود فاعل… فلماذا اذن يسود الامن انحاء الجنوب ويسود الذعر مدينة بعلبك وجوارها القريب ومحيطها البعيد؟
هل البعلبكيون وحوش ضارية، ام اشتات من البشر المهملة مناطقهم، بمدنها وقراها، المنسية مطالبهم المزمنة، بضرورة توفير الأمن والخدمات الاساسية التي يفترض انها مسندة إلى الدولة: الانماء بجوانبه كافة، لا سيما في الزراعة والتعليم والصحة.. والاخطر ـ توفير فرص العمل لهؤلاء الرعايا المنسيين الذين يتزاحمون على الوظائف البسيطة (درك، جيش، حراس احراج الخ…)
أن الاف الشبان الذين لا يجدون فرص علم، ولا يعرفون طريقا إلى الهجرة، يعيشون في بؤس من فقد الامل في دولته..
كثيرون الآن يترحمون، هناك على الرئيس الراحل فؤاد شهاب وعهده، اذ اعطى شيئا من عناية الدولة بتلك المنطقة المحرومة، فوصلت إلى بعض انحائها شبكات الماء والكهرباء، ثم استهلكها الاهمال فعاد فقراء تلك الارض يقتطعون من رواتبهم البسيطة كلفة المياه (التي تقطع ابتداء من نيسان وحتى ايلول لسقاية الحشيشة)، وتكاليف مولدات الكهرباء التي متى اضاءات منازلهم كانت بمثابة “العيد”.
عجبت لهؤلاء الناس كيف لا يخرجون على دولتهم برؤسائها والوزراء والنواب والمؤسسات الامنية، وقد شهروا السلاح، تحقيقاً للحد الادنى من حقهم في حياة عادية، مقبولة.. في الربع الاول من القرن الحادي والعشرين!