سألوني: «أنت وقليل من أمثالك من كبار العمر ما فتئتم تصرحون، وها أنتم اليوم تجددون الإصرار على أنكم تعيشون أحلى أيام عمركم. نسألك، ونسألهم: كيف تكون أيامكم أحلى أيام عمركم وأنتم مثلنا تخضعون لمعاملة تمييزية تحرمكم من الاستمتاع بطيبات عديدة».
قبل أن أجيب نهض أحدهم من مقعده واستند على عصاه واقفا. بقى ساكنا في مكانه لحظة أو اثنتين ثم تحرك معلنا في الوقت نفسه أنه قادم إلى ناحيتي. ضجت القاعة بالصمت. أعرفه منذ أيام الدراسة بل وشغلنا فيما أذكر مكتبا واحدا في فصل الخطابة. أعرف أيضا مكانته بين أهله وصحبه، مكانة توقير واحترام تزيد وتتعمق مع كل علامة جديدة من علامات التقدم في السن، علامة مثل خط جديد بدأ يشق طريقا في الوجه أو ثقلا على ساقه جعله يبطئ مشيته، أو علامة مثل تغيير في نطق حروف بعينها عند الكلام أو شرود بين جملتين. تعمدت أن أشغل اهتمامي بمن حولي فلا نراه، أنا والجالسون بالقرب مني، قادما في اتجاهنا بطيئا في المشي ومعتمدا على عصاه أو مغلوبا على نفسه لحساب عمر يقاس بالسنين ولكن أيضا بعلامات لا تخطئها عين.
نهضت لتحيته بين استغراب بعض الحاضرين، فالكبار عادة، وأقصد كبار السن، يتجنبون النهوض من مقاعدهم لتحية وافد مطمئنين إلى أن الوافد سوف يسارع بمد ذراعه نحو كتف من يحاول النهوض، شاكرا إياه على المحاولة وفي الوقت نفسه مؤكدا ومعززا حقيقة ماثلة ـ أو يجب بحكم السن أن تكون ماثلة ـ وهي أننا جميعا كبار في السن نجد صعوبة في النهوض. ومع ذلك نهضت بسلاسة وثبات ومددت ذراعي إلى أعلى ذراعه لأربت عليه وأرشده إلى المقعد الخالي بجوار مقعدي.
تبادل صاحبنا التحية مع جمهور الحاضرين وجميعهم من كبار السن. هذه الصفة لا أطلقها هكذا بدون تَرَوٍّ. لست أنا من دعا هؤلاء الكبار في السن إلى اجتماع. لست أنا من فكر في أن كبار السن هم الفئة الوحيدة في المجتمع التي لا تعترف مؤسسات الدولة بأن من حقها أن تنتظم نقابيا، أو في أى شكل يعبر عن كونها جماعة مصالح.
دعاهم هذا الرجل الجالس إلى جانبي مستندا بذقنه إلى عصاه التي لا تكل ولا تتعب. هو الذي ـ على الرغم من هشاشة بعض أهم عظام ساقيه، وعلى الرغم من بعض آلام حادة تصدرها مفاصل فخذيه وأصابع يديه.. على الرغم من كل تلك الآلام ـ بذل جهدا أثار إعجابي وحماسة كل هؤلاء الحاضرين ليشكل تجمعا له مظالم وحقوق مشروعة. قال عنها في كلمته الافتتاحية: «دين لنا في عنق هذه الدولة آن أوان تسديده مع فوائده كاملة غير منقوصة».
جاء أيضا في خطبته: «أنا هنا لأعلمكم أننى قررت ـ بعون الله ومساعدة رفاق درب أعزاء كالصديق الجالس إلى جانبي وكثير منكم يعرفه ـ أن أرفع إلى الحكومة شكواكم، وجوهرها أن المجتمع يمارس التمييز ضدكم. العالم كله صار يرفض التمييز لأسباب عنصرية أو طائفية أو عرقية أو دينية، والآن يعلن إصراره على المضي بقوة وبسرعة للقضاء على التمييز ضد المرأة في جميع المجالات بما فيها تلك التي احتكرها الرجل لنفسه على امتداد أربعين ألف عام. المرأة صار من حقها أن تعمل في كل الوظائف المتاحة بنفس الأجرة التي يتقاضاها الرجل. لقد فاق التقدم في التشريعات ضد التمييز في بعض البلاد كثيرا مما نسجه خيال النساء عبر القرون، ولكن في بلاد أخرى، مثل بلادنا ما زال الرجل متشبثا بكثير مما يميزه عن النساء. جار عليها متنكرا مرة في زي رجل دين ومرة في مكان زوج مهيمن أو شقيق فاشل ومرة أخرى في دور رجل سياسة يزعم أن القضاء نهائيا على التمييز ضد النساء حتى لو كان ممكنا لن نجني من ورائه سوى القلق والتوترات الاجتماعية وتفسخ العائلات. هذا زعم يدل على سطحية في التفكير وعجز في القيادة وتهرب من مواجهة حقيقة لا تقبل الأعذار وتبريرات العجز. الإدارة العصرية والعادلة تفترض أنه من الممكن دائما توفير الضمانات المرافقة لسلامة تنفيذ سياسات الارتقاء والتمدين والتحرر».
«كبار العمر هم أيضا ضحايا سياسات وممارسات تمييز لم تجد بعد من يواجهها بالحزم اللازم والإرادة القوية. أتوقف هنا لنتبادل تجاربنا مع التمييز الذي نشكو منه، أنا هنا لأسمع وأنقل رغباتكم وأترجمها برامج وحملات توعية وتحشيد. أمرُنا ـ من الآن فصاعدا ـ لن نتركه لأيدٍ عطوفة وكلمات معسولة ومشاعر وأحضان دافئة حينا وفاترة في حين آخر. أفضل لنا وأكرم أن نتولى بأنفسنا رفع المظالم عنا ووقف التمييز ضدنا.. هاتوا ما عندكم وعندكن..».
«تتفضل السيدة أو الآنسة الشقراء، أرجو التصحيح إن أخطأت، الجالسة على طرف الصف الثاني، تفضلي فكوني البادئة. سيدتي، لا تنهضي وسيأتي لك الميكروفون». قالت، «لا أشكو من عنف أو نقص في الطعام والشراب ووسائل الراحة، إنما أشعر أحيانا برغبة في أشياء لا أجد من يلبيها ولا من يساعدني على تلبيتها. في سالف الأيام لم أعجز يوما في الحصول على ما أريد أو في إشباع رغبة، ولو كانت محمومة. الآن يتعين أن أطلب وأنتظر الرد. أراه مهينا أن أطلب من حفيدتي مساعدتي في إشباع رغبة أو حاجة لم أتعود أن أشرك أحدا فيها. تتفقون معي ولا شك في أن كثيرا من خصوصياتنا صار أسرارا مباحة، وأن المجتمع الحريص دوما على حماية أسرار أعضائه يميز ضدنا. يرفض مد شبكات الحماية لتشملنا نحن كبار السن، يهتم مثلا بتكنولوجيا تسهل عمل العامل أو تساعد المرأة في منزلها ولا يشجع إنتاج تكنولوجيا تجعل هذه المرحلة من حياتنا أرحب وأحلى.
هؤلاء الذين يميزون ضدنا لعل أكثرهم لا يعرف عنا الكثير على الرغم من أن بينهم أحفادا لنا وأبناء وبنات. بعضهم، ربما أكثرهم لا يعلم أن لأعضاء جسم الفرد الواحد من كبار السن أعمارا خاصة به، لكل عضو في الجسم عمره الخاص. ترى شابا في الأربعين بشعر أبيض بياض الجليد على جسم نافر العضلات متسق الشكل والأطراف. وترى رجالا في السبعين وتحسبهم في الأربعين لا تجعيدات تسربت فرسمت لنفسها خطوطا على وجوههم ولا انحناءة طفيفة تكشفها مشيتهم. تجالس جدة من جداتنا فتنبهر بما تذكره ليس فقط عما وقع لها أو أمامها أو وراء ظهرها وهي طفلة في العاشرة، تحكيها كأنها تعيشها في التو واللحظة. وفي الوقت نفسه تذكر بالتفصيل وقائع يوم الأمس. حفيدتها تجلس منبهرة لأنها وهي في الثلاثين من عمرها تشكو سوء ذاكرتها وضعف سمعها. كبر السن ليس واحدا في كل الحالات، وكبار السن ليسوا نسخا من أصل فرد واحد تعامل معه الزمن برقة أو بقسوة».
«الأستاذ الكبير الدكتور فؤاد بك هل تشعر بالتمييز ضدك؟». أجاب: «نعم ويعذبني ويشقيني. كنت دائما مقصد طلاب الدراسات العليا وبخاصة المرشحون لشهادة الدكتوراه. ألاحظ منذ سنوات أن بعض الطلاب المتميزين يفضلون أن يشرف على أطروحاتهم أساتذة أصغر سنا. ذريعتهم، وأتفهمها، أن الأساتذة كبار السن ابتعدوا عن استخدام التكنولوجيات الحديثة وربما ابتعدوا أيضا عن فهم التطورات في أفرع المواد والعلوم التي تخصصوا هم أنفسهم فيها. المهم أن طلابا أكثر وأكثر يفضلون إشراف أساتذة أصغر. بمعنى آخر الأكاديميا التي عشنا لخدمتها وتحت رعايتها تميز الآن ضدنا لا لسبب معلن سوى أننا كبرنا في العمر. من ناحية أخرى، رأينا الدولة في الآونة الأخيرة تضم إلى مؤسساتها أساتذة حديثي العهد بالأستاذية لتولي مناصب وزارية أو مواقع استشارية. يا أخواتي وإخواني، نحن الآن فئة كانت بحكم الواقع والخبرة والفضل متميزة صارت وبالزيادة المتوالية في حجمها فئة محرومة من حقوق وأهمها الحق في المشاركة في بناء الدولة والإشراف على تكوين الأجيال الجديدة من العلماء وقادة التعليم. نريد أن تحمينا الدولة من غزو الأجيال الجديدة واحتلالها المناصب الهامة. يجب أن يكون معلوما أن انعزالنا ليس بإرادتنا أو لعجز من ناحيتنا أو تهربا من مسؤولية المشاركة، انعزالنا نتيجة طبيعية للتمييز ضدنا أو مفروض علينا. نضجنا فلن نقول إنه ثمرة مؤامرة…».
«الكلمة الأخيرة لك يا أستاذنا، أستاذ هذا الجيل المجتمع في هذه القاعة، تفضل». أمسك أستاذ الجيل بالميكروفون وقال «لن أطيل عليك فقد تأخر أغلبنا على موعد النوم. سمعت اليوم عشرات الشكاوى من أن الدولة وربما المجتمع يمارس التمييز ضد المواطنين الكبار في العمر. هناك تمييز لا شك فيه تفرضه حقيقة لا تحتمل الشك وهي أنكم، مع احترامي لأغلبكم، دخلتم رغما عن إرادتكم مرحلة تخلف إجباري عن سيرة التكنولوجيا الحديثة في فروع مارستم العمل فيها أو في مناهج العيش الأخرى. أنتم أنفسكم مارستم التمييز ضد الكبار في العمر عندما كنتم في مواقع سلطة وقرار.
أعترف أنني ارتحت لبعض شكاوى التمييز التي سمعتها من بعض الحضور. قالت سيدة إنها غاضبة لأن الشباب في عائلتها يقيمون الحفلات الساهرة ولا يدعونها لها، هذا تمييز. شكوى أخرى من صديق عاش حياته عاشقا للسفر، حكاياته عن السفاري الإفريقية وقمم الجبال في الهند والأرجنتين وتشيلي نرويها لأحفادنا وحكاياته وحكاياتنا عن متعة الإقامة تحت الخيام على شاطئ البحر الأحمر نتداولها إلى يومنا هذا. صديقنا يشكو من أن الفئات الأصغر عمرا تميز ضده، هو الآن لا يدعى لرحلات سانت كاترين والصيد في البحر والتأمل في سيوة.
سيدة حاضرة في الاجتماع قالت لنا إنها قررت من نفسها أن ترفض حضور الأعراس لأنهم «يخصصون لكبار السن موائد خاصة وللشباب موائد أخرى». هذا هو التمييز بامتياز. قالت بالحرف الواحد (هم ضدنا. لا يريدون الاختلاط بنا. وأنا من ناحيتي أرفض أن يحسبوني على قطاع من الناس عاطل عن العمل أو عاجز على صنع البهجة أو لا يقوى على السهر أو يتسلي بانتقاد ملابس صغار السن ورقصهم وحميمية علاقاتهم)».
شكرت الحضور. أكدت موقفي من التمييز ضد أي فئة أو مواطن. أكدت مرة أخرى أننا ـ وأقصد كبار السن ـ نستطيع أن نجعل هذه المرحلة من حياتنا أحلى أيام عمرنا. بعضنا عرف الطريق إلى بيوت التجميل، تمرد على الزمن والبشر ورفض التمييز وحاول أن يجعلها بالفعل أحلى أيام عمره. بعض آخر تمرد على نفسه، رسم لأيامه خريطة طريق جديدة مستبعدا رغبات بعينها ومعززا رغبات أخرى ومبتكرا علاقات مناسبة.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق