أحد أهم أحلام مرحلة معينة من شبابي كان أن أكبر بسرعة لأعيش كالمسنين. كان لشيخوخة أحلامي مواصفات معينة لم أجدها مكتملة في شخص بين كل من عرفت وقابلت ممن تقدم بهم العمر في عائلتي أو في الحي الذي نشأت فيه ونضجت أو في دائرة رؤسائي في العمل. يبدو لي الآن، وقد تجاوزت بعقود هذه المرحلة من أحلام شبابي، أنني انتقيت لمستقبلي في الحلم صفة من رجل مسن وصفة مختلفة من مسن آخر وصفة ثالثة من رجل ثالث حتى اكتملت في عقلي المتمرد دائما مواصفاتي لرجل أحلامي في شيخوخته.
***
انتقيت لرجل أحلامي عصا سوداء كان يمسك بها رجل يسكن بآخر بيت في شارعنا ليستند عليها ويهش بها الكلاب. انتقيت مع صاحب العصا رجلا طويل القامة مستقيم الظهر يمشي مرفوع الرأس وفوق الرأس طربوش أحمر حديث الكواء. لم يفتني فيما يبدو أن يكون حذاؤه من الجلد وعلى الدوام لامعا. أذكر أيضا أنه كان، كما ظهر في مخيلتي، حليق الذقن حاد النظرات مرتب الثياب مهيب المظهر. انشغلت في فترة من فترات شبابي بصنع هذا الإنسان في خيالي حتى صرت أقلده في المشي وفي الكلام فقيل عني “هذا الولد يشيخ قبل أوانه”.
***
أنا الآن وقد تقدم بي العمر كثيرا أجد نفسي وقد فشلت في تحقيق حلم الصبا والشباب بصنع شيخوخة بمواصفات معينة. لم أتقاعد كما يفعل كبار السن. لا أمسك بعصا أتوكأ عليها أو أهش بها على الكلاب. لست مريضا أو متعبا حتى أحتاج لعصا أتوكأ عليها. وكلاب اليوم حيث أسكن لا تعوي ولا تنبح ولا تطاردني كما كانت تفعل كلاب شارعنا عند مرور كبير في السن فيهشها بعصاه. شيخوختنا وكلابنا ليسوا مثل شيخوخة وكلاب تلك الأيام.
***
أنا الآن أكبر الكبار عمرا في عائلتي الممتدة. أظن أنني أعمل بحكمة سجلها إبراهيم ناجي وغنتها له ولنا أم كلثوم. غنت تقول “واثق الخطوة يمشي ملكا”. أعرف أن التهديد الأكبر في الشيخوخة يأتي من السيقان. بعض كبار السن أدركوا هذه الحكمة مبكرا فمارسوا المشي حتى أيامهم الأخيرة. لم يرقدوا في فراش مرض، من هؤلاء والدي وشقيقي حسب ما كانت تنقله الرسائل لي وأنا في الخارج. بعض آخر فضل الراحة بالاستلقاء أو النوم أو الجلوس طويلا. يرتاح الصدر وتتعب الساقان. جدتي مثلا بسبب وزنها وتعب ساقيها فضلت الاستلقاء في فراشها لسنوات عديدة تشكو أوجاع الساقين. استمر الوزن في الزيادة. جاء يوم تمردت فيه الساقان بإعلان رفضهما حمل الجسم وما زاد عليه من شحم ولحم. كانت إذا تمددت في سريرها لتنام ملأته بالكامل وإن جلست ملأت أكثر من نصفه.
***
أذكر “أم سيدة” الفلاحة التي كانت تأتي إلينا لترى ابنتها وتحصل على أجرتها وما تقرره أمي كمكافأة مناسبة لما حملته في “القفة” وغالبا ما حملت “فطير مشلتت ودكر بط وقشطة بلدي”. كانت إذا غضبت منا نحن الصغار هددتنا بأن تشكونا إلى “الرجل العجوز” الذي كان يمر عادة في شارعنا ويصعد إلى شقتنا في المواسم ليحصل على رغيف خبز محشو بالأرز واللحم المسلوق. كانت تعليمات أمي لجماعة الخدمة والمساعدة تقضي بإخفاء الأطفال عن نظرات هذا “الراجل العجوز”. يعني بكلمات قوية ومحسوبة، “يأخذ رغيفه ويمشي لحال سبيله”.
***
“أم فاطمة” فلاحة أخرى تزورنا أيضا في المناسبات وعلى رأسها قفة أصغر من قفة “أم سيدة”. كنا صغارا ولكن رسخ في ذهننا أنها أفقر حالا. رسخ أيضا وإلى يومنا هذا الذي أكتب فيه هذه السطور أنها أفضل وأحسن من روى الحواديت. منها تجذرت في عقولنا الرخوة ولكن الخصبة حدوتة الراجل العجوز أبو رجل مسلوخة وحدوتة لا تقل رعبا ورهبة وكانت عن الراجل العجوز “اللي اتجوزته واحدة من بنات الجن وخلفت منه عيال كتير ليهم ديل وقرون”.
***
ليس دفاعا عن المسنين ولكن عن الحقيقة أقر هنا أن كبار السن ليسوا نوعا واحدا. أكثرهم بين من أعرف قرروا أن يكونوا صرحاء لا يكذبون ولا يخفون حقيقة أو ألما. يبدون لمن حولهم لا يسمعون. هم في حقيقة الأمر مستمتعون بصمتهم وسكونهم وقلة حركتهم. يعيشون لحظات طويلة من الصدق، لم يقدر لهم في حياتهم الممتدة أن يعيشوا مثلها. يجب ألا ينسى الأهل والأصدقاء أن المسن بين كبارهم لا ينتظر مساءلة أو حساب، وفي الحالتين غير عابئ ولا مبالي.
هؤلاء المسنين تولدت لديهم عبقرية قراءة ما في الصدور. لا يملون الهدوء والسكون مهما طال الصمت وتوقف الكلام. يستعينون على صد الملل بقراءة العيون في ظل اطمئنان الأهل إلى ضعف سمع الجدة أو الجد، هؤلاء لم يبلغهم نبأ الأسطورة. كلاهما الجد والجدة نجحا في تطوير مهام الحواس لتعمل بتكامل وتنسيق. كلاهما أدرك مبكرا عبقرية الأطفال وقدرتهم على ترجمة ما يدور في المكان والرد بما يستحق أو عدم الرد إذا لم يستحق.
***
بالمناسبة أعترف أنني لم أجد بعد إجابة على سؤالي الحائر على امتداد سنة أو أكثر: بأي لغة يفكر الطفل وهو في عمر الشهور؟، صرت أطبق السؤال نفسه على المسن وهو في عمر الثمانين أو أكثر. أسأل بأي لغة يفكر المسن؟
لا أبالغ.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق