لم يكن الراحل الكبير الياس الهراوي، لا قبل الرئاسة ولا خلالها يدّعي أنه أفضل رمز للدولة… ولا كانت الدولة في عهده الممدّد بتعديل استثنائي للدستور عرف به اللبنانيون من قبل أن يقرّ في المؤسسات الدستورية ، في أحسن حالاتها.
لكن الياس الهراوي كان يستطيع الادعاء، بصدق أنه حاول فأعطى أقصى ما يقدر عليه ضمن الظروف البالغة الصعوبة التي حكمت وصوله إلى الرئاسة، من خارج التوقع، ثم حدّدت القدرة على الإنجاز بما تحقق فعلاً، وهو كثير وخطير قياساً بعهود رؤساء آخرين للجمهورية حكموا في ظروف أفضل، لا سيما قبل الحرب الدهر وخلالها.
لقد أكد عهد الياس الهراوي إمكان بناء الدولة في حماية تشوّق اللبنانيين إلى دولة كادوا ينسونها ليس فقط لأن الحرب قد هدمتها بل لأن بعض الرؤساء والقادة العظام قد ساهموا في تهديمها.
أمس، في بيروت حيث انتهت الرحلة كما على امتداد الطريق إلى حوش الأمراء في زحلة، حيث ابتدأت الرحلة التي كادت تصير أسطورة، كان الحزن عميقاً جداً… وليس انتقاصاً من مكانة الياس الهراوي أن يُقال إن الحزن كان يتجاوز شخصه ومكانته ودوره في تاريخ لبنان الحديث، وإن كثيراً من اللبنانيين نظروا إلى ذلك الموكب المهيب وكأنه تشييع للدولة في لبنان.
كان المشهد حافلاً بالمفارقات والتناقضات الظاهرة أو المموّهة: رؤساء لا يلتقون إلا في جنازة رئاسية، أو في مناسبة عيد الاستقلال، وبعد وساطات وشفاعات وإشكالات تذهب بهيبتهم جميعاً. وسفراء لدول كبرى يقاطعون رئيس الدولة المعتمدين لديه، ويجدون أنفسهم مضطرين لمصافحته أمام الكاميرات، بينما عمل بعضهم ما وسعهم العمل تنفيذاً لقرارات دولهم من أجل خلعه، فلما عجزوا سلموا بوجوده اضطراراً، تاركين لمجلس الأمن الدولي أن يضعف شرعيته، ولدولهم أن تستثنيه من لقاءات من يزور لبنان من مسؤوليها، ومن الدعوة إلى المؤتمرات الدولية التي تعقد في ضيافتها أو تحت وصايتها (مؤتمر الفرنكوفونية).
وبالتأكيد فإن بين الأسباب الإضافية للحزن الذي لفّ الموكب افتقاد الرجل الذي أعطى عهد الياس الهراوي بعض قدرته على الإنجاز، وهو الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي أتاحت ديناميته وعلاقاته ووهجه الذهبي إمكان أن يعود لبنان الدولة إلى الحياة، دون أن ننسى شريكهما الثالث في الترويكا الرئيس نبيه بري، ودون أن نغفل الرعاية الاستثنائية التي حظوا بها جميعاً من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وهو المتميّز بحنكته وقراءته الدقيقة للخريطة الدولية والأوضاع العربية وفهمه لأوضاع لبنان وفرادته وحساسياته الفائقة.
لقد بدأ الياس الهراوي رئيس مصادفة محزنة وانتهى رئيس مغامرة ناجحة.
ولقد أُدخل إلى الرئاسة من الباب الخلفي، وقال البعض مع وصوله إلى سدتها: لقد هزلت..
ولكنه بعد أن بقي في سدة الرئاسة تسع
سنوات، كان على من استهان بقدراته أن يعتذر عن سوء تقديره.
على أن معجزته الأخيرة أنه جمع من خلف نعشه من لم يجتمعوا لأسباب تتصل بضرورة حماية الدولة… وبالتأكيد فلو أنه كان يستطيع أن ينظر إليهم لخاطبهم بالزحلاوي!
كان الياس الهراوي سياسياً محترفاً. وقد تخرّج من مدارس تفهم لبنان وطبيعة التوازنات الدقيقة فيه، وتعرف طبيعة العلاقة الخاصة جداً بسوريا. ولأنه تخرّج من مؤتمر الطائف، فقد وعى أن التسوية تلغي النظام الذي كان قائماً في لبنان، وأن رئاسة الجمهورية لم تعد ما كانت عليه. لم يعد الرئيس مَلكاً. صار واحداً من ثلاثة ظاهرين ورابع ظاهر خفي. وكان يعي أن دمشق كانت في لحظتها تختصر العواصم فأعطاها ما بيدها فعلاً، وحاول ومعه شريكاه صديقاه اللدودان أن يشاركها في الداخل، متواطئاً معهما أحياناً وعليهما أحياناً أخرى في لعبة كان الجميع يعرف القواعد فيها.
وهكذا فإن الياس الهراوي يكتسب قيمة استثنائية ممن وما جاء بعده. ولعله لو كان يستطيع الكلام لتوجه إليهم بالشكر: لقد جعلتموني بخيباتكم وتعثركم بطلاً!
بل لعله يستطيع أن يحاكمهم جميعاً: الطائفية في عهدي كانت أقل، والشعب كان بدأ يجد طريقه إلى وحدته.. والدولة عادت إلى الوجود، ولو بنواقص معروفة، لكننا أكدنا القدرة على استعادتها.
من هنا فإن الجنازة تضمّنت محاكمة للعهد الحاضر، بنسختيه الأصلية والمعدلة: فيها من اللوم والمؤاخذة للقائمين في الأمر مثل ما فيها من التكريم للراحل وأكثر.
لقد رحل الياس الهراوي كبيراً ، لا سيما متى تمت مقارنة عهده بوقائع أيامنا هذه.
وثمة من يتخوّف اليوم من أن تكون الدولة تعاني من مرض خطير كالذي أودى بالرئيس الياس الهراوي بعد عذاب ممض.