طلال سلمان

جزائر وعيدها دامي

عشية الذكرى السادسة والثلاثين لولادة دولة الاستقلال الوطني، دولة ثورة التحرير بالكفاح المسلح، دولة المليون شهيد، يلتفت الجزائريون باحثين عن دولتهم التي دفعوا لإقامتها أغلى ثمن في التاريخ، فيحزنهم أن يجدوها في حالة تهالك، ومصيرها مطروح للبحث: هل هي مؤهلة للحياة، أم أنها مهددة بالتفسخ والانحلال عبر مشاريع التفتيت التي ربما اتبعت خريطة منابع النفط والغاز.
… ويفتقد الجزائريون وحدتهم الوطنية التي حققت معجزة استعادة بلادهم بهويتها الأصلية العربية، الإسلامية من براثن الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي استطال لأكثر من 130 سنة، فيجدونها مهددة كما لم تكن في أي يوم لا قبل حرب التحرير ولا بعدها.
… ويفتقدون استقلالهم الحلم فيجدون أنه قد غدا شكلياً ومتهافتاً، إذ لا يعيش استقلال في ظل انفكاك الدولة أو خروج بعض شعبها بالسلاح على سلطتها المركزية والطعن بشرعية تمثيلها لعموم الأهالي، والانقسام الذي يلجئ الناس إلى أعراق أو عصبيات أو نزعات انفصالية بوهم الهرب من البؤس الاقتصادي والتردي الاجتماعي والضياع السياسي المصفح بدكتاتورية عسكرية وتمرد مسلح يرد على القتل بالقتل فإذا الكل قاتل ومقتول في آن، وإذا أول القتلى الاستقلال والوحدة الوطنية والخبز مع الكرامة ومن دونها جميعاً لا تكون دول أو أوطان.
ولعل بين المفارقات المفجعة أن يكون هذا التاريخ بالذات، 5 تموز، قد اختير يوماً لتوطيد الاستقلال وتوكيد الهوية الوطنية والانتماء القومي، عبر اعتماد اللغة العربية نهائياً لغة وطنية ورسمية وحيدة، وإلزام الجميع بها في تحرير جميع الوثائق الرسمية والمراسلات في الإدارات والشركات والمؤسسات، إضافة إلى الجامعات والمعاهد العليا (مع مهلة إضافية للتعليم العالي حتى العام ألفين).
وعشية »الاحتفال« بالذكرى كانت شوارع العاصمة وبعض المدن الجزائرية تموج بالمتظاهرين، في بلد تشمل البطالة فيه حوالى 30 في المئة من سكانه، هم بأكثريتهم الساحقة، كما مجموع السكان، من الشبان الذين تماهوا مع الحيطان لشدة استنادهم في تسكعهم إليها فأخذوا منها التسمية التي يعرفون بها »الحيطانيين«، والأفظع أن يكون هتاف أبناء الثورة (ودولتها) هؤلاء: لسنا عرباً!! نريد تعليم الأمازيغية في المدارس!
هي الحرب الأهلية، ولكنها الآن تتخذ منحى انفصالياً خطيراً.
وإذا كانت أخطاء الحكم، بمختلف وجوهه الآتية من الثورة أو باسمها، قد وفرت الأرضية الصالحة للانفجار، فإن قوى مشبوهة لا يعرف الناس عنها الكثير، لا داخل الجزائر ولا خارجها وإن كان يشار إليها عادة بتعبير غامض هو »الجماعات الإسلامية«، وغالباً ما يضاف إليها »المسلحة« قد ولغت في الدم وأفرطت في جرائم القتل الجماعي بحيث أضعفت أهم ركائز الوطن والدولة والاستقلال: الإسلام ثم العروبة، وبات منطقياً توقع نتائج كارثية.
ماذا يعني التعريب للجائع، العاطل عن العمل، الممنوع من حقه في التعبير عن رأيه، الملغاة نتائج الانتخابات »الديموقراطية« الوحيدة التي وفرت له فرصة إثبات حضوره، والذي لم يمنحه التعليم الرسمي المتردي ثقافة أو معرفة فعلية، كما لم تؤمن له شهاداته الخبز، بل تسبّب على حد ما يقول كثيرون بنشوء جيل من الأميين في اللغتين، لا يتقنون لا العربية ولا الفرنسية.
مع قيام الدولة كان تأكيد الثوار الذين بمعظمهم لا يعرفون العربية، على التعريب موقفاً يمثل ذروة الوطنية، في مواجهة »الفرنسة« المعتمدة فعلياً، والسائدة بقوة الأمر الواقع.
وكان بديهياً الاعلان أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية الرسمية، واعتمادها في الاذاعة، والمباشرة في حملة تعريب واسعة بدأت ناجحة جداً ثم تعثرت لأسباب سياسية في الغالب الأعم.
وكان بديهياً أيضاً أن تحاول بعض الأوساط المتفرنسة والمتضررة عموماً من الاستقلال إثارة البربر بتصوير التعريب وكأنه يستهدفهم في لغتهم، ومن ثم في قوميتهم، قبل فرنسا التي مسخت الجزائريين خلال استعمارها الطويل فباتوا بلا لغة أم، بل وبلا لغة على الإطلاق، إلا فتاتاً هجيناً من العربية (الدارجة) والفرنسية، والاسبانية والبربرية (الأمازيغية).
لكن تلك المحاولات لم تنجح، لأن عرى الوحدة الوطنية كانت أقوى، ولأن الدولة برغم الاعتراضات على بعض ممارسات الحكم كان لها بهاء الحلم، كما كانت الثروة الوطنية قادرة بعد على تعزيز الدور وإضفاء مزيد من الوهج على تلك الدولة الفتية التي سرعان ما احتلت بجدارة دوراً إقليمياً طليعياً واحتلت مكانة متميزة على المسرح الدولي.
على أن ذلك كلام في الماضي، ماضي ما قبل »سقوط« النظام وانفجار صراعاته مع قواه الأصلية ومع جماهيره الطبيعية، التي وضعت البلاد على حافة الحرب الأهلية بين سلطة متأسلمة وإسلام سياسي مبهور بالسلطة بمعزل عن مشكلات البلاد وقدرته الفعلية على حلها.
والحرب الأهلية، كما خبرناها لبنانياً وعربياً، تفسد »الخميرة« فيضيع الخباز والخبز!
تصيب الحرب الأهلية أطرافها المبتلين بها بالعمى فيضيّعون طريقهم وتختلط عليهم الأهداف، ويأخذهم التعصب الى أعدائهم أحيانا، وإلى نحر الذات عموماً، فتهون عليهم بلادهم، دولتها وأرضها ووحدة شعبها، رموزها وقيمها، لأن الجزئي يحل محل الكلي، والثانوي يتقدم على الرئيسي، ويضيع الجميع في خنادق الدم التي تلتهم الرجال والنساء والأطفال والمقدسات.
ليس الصراع في الجزائر بين العرب والبربر، ولا بين العربية والأمازيغية،
فما أسهل أن تحل مشكلة الأمازيغية، وأقرب مثال لحلها هو المعتمد في المغرب.
إنها الصراعات السياسية الدولية التي أتاح لها ضعف النظام وعجزه عن حماية وحدة شعبه المناخ المؤاتي لضرب الأهداف الوطنية جميعاً.
لقد انفتح الباب وسيعاً أمام المصالح الأجنبية جميعاً، الفرنسية أولاً ثم الأميركية، وكذلك لطرح مسألة الأقليات، بينما لا أقلية في الجزائر، ومن المستحيل وضع خط فاصل بين العرب والبربر لا عرقياً ولا دينياً ولا طبعاً في المصالح الوطنية حيث الجميع فقراء، بل مفقرون، وحيث الجميع يعانون من أزمة انعدام الثقافة، وحيث يقتتلون على فرص العمل، بينما ثرواتهم الهائلة من النفط والغاز تضيع وتزيد من ضياعهم!
لا تقوم الدولة بالأوامر والتهديدات والدبابات والعسكر والميليشيات التي ترد على القتل بالقتل.
وأحداث الجزائر، أمس واليوم، دليل على عجز النظام، وليس فقط على »تآمر« بعض القوى المتاجرة بالبربر، لغة ودوراً.
ولا يُلام أي »مستعمِر« جديد على استغلال مأساة الدولة التي تزيد، هذه المرة، من عدد شهدائها عبثاً، وخارج أي قضية.
حمى الله الجزائر، عرباً وبربراً، شعباً ودولة يعود عليها عيدها فيضيع عن طريقه بين أحزانها.. الدامية.

Exit mobile version