مرة جديدة تتأكد في الجزائر، عبر الدم المهدور الذي زلزل الدولة ومزّق وحدة شعبها وأهدر مقدرات البلاد في الحاضر وكاد يهدر دم مستقبلها، تلك القاعدة الثابتة حتى لتكاد تكون بديهية: لا يتعايش حكم العسكر والديموقراطية.
باتت »الانتخابات«، المعلبة والمحكومة نتائجها سلفاً، نذيراً بالويل وتوغلاً في طريق الحرب الأهلية: مرة بإلغائها حتى لا يفوز مَن يهدّد سلطة العسكر، ويصحِّح نصاب الحياة السياسية، ومرة ثانية بفرض الفوز »القسري« للمرشح الأوحد الذي »انتخبته« سلطة العسكر ليؤمّن استمرارها، وليس لكي يحيي الآمال بالديموقراطية وبأن تسود إرادة الشعب عبر التصويت الحر.
واليوم تحديداً ستخسر الجزائر رئيساً اختارته سلطة العسكر لمرحلة مؤقتة ثم اختار أن ينسحب طوعاً لأنه لا يستطيع أن يستمر رئيساً بلا سلطة، عدا عن أنه منتقص الشرعية، كما ستخسر الفرصة للخروج من الدولة الدموية عبر الانتخابات التي كان مقدراً لها، لو تمت في ظروف طبيعية، أن تنجب رئيساً فعلياً بصلاحيات حقيقية معززة بالشرعية الشعبية أو بالأحرى نابعة منها.
وحتى الأمس كان المشهد الجزائري أجمل من أن يكون حقيقياً، ثم تفجّر الوهم، وانسحب المرشحون الستة للرئاسة تاركين الشبهة الثقيلة للمرشح المقرر فوزه سلفاً، والمدموغ من قبل أن ينصّب بأنه »رئيس مفروض« ولكنه مؤهل لكي يحجب أو يموّه حقيقة استمرار سلطة العسكر.
عبر الانتخابات التشريعية الأولى التي ألغتها سلطة العسكر من قبل أن تكتمل، قبل سبع سنوات، تمّ تمزيق المؤسسات السياسية التي كانت مصدر الشرعية، جبهة التحرير الوطني (الحاضنة التاريخية للثورة الجزائرية)، ثم ما تفرّع عنها ومنها من تيارات كان أبرزها وأقواها »جبهة الإنقاذ الإسلامي« التي التجأ إليها بالأساس نسبة غالبة من »مناضلي جبهة التحرير« مشدودين بالشعار الديني بعد خيبة الأمل بمن حكموا بقوة الذكريات والوعد التاريخي.
وكان الثمن رئيسين: الشاذلي بن جديد الذي اختار لحظة هربه من »التجنيد الإجباري«، والراحل محمد بوضياف الذي جيء به من منفاه للإفادة من سمعته و»بعده«… لكن كلاً منهما ظل مجرد »واجهة«، أو »صورة«، بينما السلطة الفعلية بقيت باستمرار في يد الجيش، بدءاً من 19 حزيران 1965، حين قام الرئيس الراحل هواري بومدين بأول انقلاب عسكري على حكم جبهة التحرير الذي كان يحبو بعد ولما يكمل عامه الثالث، فخلع أول (وآخر) رئيس منتخب لجزائر الاستقلال أحمد بن بلة.
ها هي »الانتخابات« المحكومة بالعسكر مجدداً تطيح برئيسين: أولهما الهارب من قبل أن تنتهي مدة »أسره«، والثاني من قبل أن ينصَّب في الموقع الذي بات شفافاً بحيث لا يحجب القوة الفعلية التي تتحكّم بمن »يوضع« فيه.
و»الرئيس« هو عنوان المشكلة في الجزائر، مجرد عنوان،
أما أساس المشكلة فهو حكم تلك الثلة من العسكر التي تتمسك بالسلطة ولو فوق جبل من الرؤوس المحزوزة من أعناقها، ومن الأجساد المقطَّعة أوصالها، ومن النساء والأطفال والشيوخ والشباب المقتولين والمدفونين في مقابر جماعية موزعة على مختلف النواحي، والتي تكاد تمسح من الذاكرة الصورة المجيدة لبلد المليون شهيد..
لكأن الجزائر اليوم بلد الثلاثين مليون ضحية..
ولكأن المطلوب، لكي تتوطد سلطة العسكر، أن تصبح الانتخابات مرادفاً للحرب الأهلية وليست الأساس الحقيقي لبناء دولة كبرى في القمة من أفريقيا، ولها دور عظيم في الوطن العربي كله، ولها رصيد متميز في العالم كله.
لقد دمّرت سلطة العسكر وعداً وأملاً ناضراً في جزائر قوية وغنية وقادرة ومؤهلة لأن تلعب دور الرافعة عربياً، ولأن تكون بين رموز القدرة على إنجاز التغيير والتقدم في العالم الثالث كله، ولأن تكون قوة مؤثرة على الصعيد الدولي.
وها هي سلطة العسكر تطلق الرصاص الآن على الفرصة الأخيرة التي كان يمكن أن تشكل المخرج من أتون الحرب الأهلية، بترك الشعب يعبّر مرة عن رأيه ويختار رئيساً من بين سبعة مرشحين ليس فيهم واحد يمكن اعتباره »عدواً« لجيش بلاده،
مع العلم بأن بين أولئك السبعة أكثر من مرشح كان يمكن أن يوفر للبلاد المخرج من الحرب الأهلية، وللعسكر أنفسهم كرامة الانسحاب من الموقع الذي اغتصبوه، والذي ثبت أنهم لم يكونوا مؤهلين لإشغاله إلا بالدم والمزيد من الدم.
وثمة مخاوف جدية من أن يكون عبد العزيز بوتفليقة، الرئيس المفروض الآن والمطعون بشرعية تمثيله سلفاً، الضحية الرئاسية الخامسة..
وبعض الانتخابات أكرم منها الفرض الصريح،
وبعض التزكية أسوأ من السقوط… ديموقراطياً، لكي تفوز البلاد، أقله بأمنها وسلامة مواطنيها.
وسلطة العسكر »آكلة« الرؤساء بقدر ما هي »قاتلة« لمعارضيها… وهم بالملايين!