استولد استشهاد جورج حاوي، في ظل حالة الاضطراب النفسي السياسي الأمني التي يعيشها لبنان، مجموعة هويات و انتماءات و مواقف لهذا القائد السياسي الذي تميّز في حياته بشجاعة فائقة في كسر النمطية والخروج على التقاليد الحزبية الصارمة في مؤسسة راسخة كالحزب الشيوعي، انتهت به بعد تجربة صاخبة إلى الخروج منه من دون أن يخرج عليه.
ولقد جاءت مناسبة الذكرى الأولى لاستشهاده بعد عام طويل من التجاذبات والمنافسات والمزاحمة على ادعاء الانتساب إليه أو أخذه إلى جهات وتيارات لم يكن يقبلها ولم تكن تقبله، فإذا الجمهور أمام مجموعة نسخ من جورج حاوي، تتوزع وتوزعه فكرياً وسياسياً حتى لا تكاد تبقي من نسخته الأصلية شيئاً.
وأفترض أنه قد بات صعباً على أصدقاء جورج حاوي، وربما على أفراد أسرته، فضلاً عن رفاقه القدامى، أن يتعرفوا الى هويته الأصلية وسط فوضى الهويات التي مُنحت له أو أُسبغت عليه، لتنزع عنه ملامحه أو ينزع منها لأغراض آنية واستثمارات سياسية رخيصة في ظل مناخ موبوء تتفشى فيه نزعات الثأر والانتقام والتبرؤ من الملامح المميزة.
الآن، وقد انتهت الاحتفالات للمناسبة ، وانفض عقد العاملين على استثمار جرائم الاغتيال السياسية لأغراض متعددة ومختلفة ليس بينها تقديم الشهيد في صورته الأصلية التي قد لا تخدم منظمي الاحتفال، يمكن تقديم شهادة شخصية طبيعية في هذا المناضل، المقاتل، المشاكس، المغامر بل المقامر أحياناً، المقتحم من خارج الحسابات، المتراجع التكتيكي بمهارة المحترف، المتبدل، المتغيّر، الثابت، المتحوّل، الذي فيه من خصائص الشاعر والزجال بقدر ما فيه من مزايا السياسي، الفلاح الغليظ الملامح الرقيق العاطفة، الذي يشبه بعض شخصيات تولستوي وقد تداخلت وتمازجت في واحد هو الكل معاً.
لقد عرفت جورج حاوي المتعدد، من موقع الصديق و الشاهد المعجب بحويتيه وقدرته على مجابهة الصعب بمرونة استثنائية.
عرفته في بيروت وفي دمشق وفي طرابلس الغرب وفي الجزائر وفي بغداد وفي عدن وفي صنعاء… والتقينا في موسكو وفي براغ وفي صوفيا، وكذلك في باريس ثم في واشنطن التي كانت سياسياً في موقع الخصم، وهي اليوم أكثر عداءً.. لكننا لم نلتق أبداً في بتغرين، منطلق الرحلة المثيرة وختامها الحزين.
عرفته في قلب حركة المقاومة الفلسطينية جسراً منها إلى العواصم والقيادات العربية، والدولية (شرقاً) وجسراً إليها…
عرفته ظالماً لنفسه وعقيدته ومظلوماً بالظروف الصعبة لانكسار الأفكار العظيمة بسبب تطبيقاتها الرديئة… وعرفته عندما كان الرجال يُعرفون بوجوههم، وعندما فقد الرجال وجوههم أو استبدلوها بأخرى أكثر عصرية . عرفته يملأ الشارع الفوارة روحه بنداءات التغيير، وعرفته وقد فقدت الشوارع روحها وفقد القادة روح النضال ويئسوا من إمكان التغيير فاستكانوا أو هربوا من ميدان الصعوبة إلى الحلول الفردية السهلة في ظل الانحراف.
عرفته وقد سقطت القلعة، فانكشف الداخل، وتهاوى المركز بعدما فقد إشعاعه، وتداعت الأطراف حتى الذوبان في الخصم .
تعريب الشيوعية
منذ أواسط الستينيات اكتشف جورج حاوي وثلة من رفاقه المستنيرين بعض مكامن الخلل في الحركة الشيوعية العربية: انتبهوا إلى أنها ليست عربية ، حتى إذا افترضوا أنها شيوعية فعلاً وفق المعايير السوفياتية السائدة آنذاك.
وقد حفظ له الأمس، وسيحفظ له الغد، أنه أحد قادة تعريب الحركة الشيوعية، فضلاً عن توطينها .. وأنه قد واجه في حربه أبشع الاتهامات وأشرس الحملات من طرف التقليديين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم الحرس الحديدي للحزب الشيوعي بصيغته المقررة في موسكو.
من باب الذكريات فقط أستعيد هنا بسرعة بعض الوقائع:
أواخر الستينيات، وبعد الانتفاضة العربية في قلب الحزب الشيوعي اللبناني، عانت قيادة الحزب الشيوعي السوري أزمة حادة عندما عجزت عن مواجهة الأسئلة الصعبة التي حسمتها القراءة الصحيحة للواقع في بيروت ورفضت هي أن تقبلها أو تحاول فهم مبرراتها العملية.
ولقد فجّرت هذه الأزمة قيادة الحزب الشيوعي السوري عندما راجعت المركز في موسكو لمساعدتها على حسم الأمر، فأوفد إليها بعثة من الخبراء البلغار ليناقشوا ويقرروا: هل هناك أمة عربية أم لا؟ وبالتالي هل من الضروري أن تتصالح الحركة الشيوعية في منطقتنا مع العروبة لتستطيع أن تستقطب الجماهير وأن تؤدي دورها في خدمة التغيير من أجل الأفضل؟
… وعندما قرّر الخبراء البلغار أن الأمة تحمل هوية قيد الدرس ، وأن العروبة مسألة فيها نظر، وأن الأمة العربية قيد التشكل ، تفجرت قيادة الحزب وكان بطل التغيير آنذاك المناضل رياض الترك ومعه مجموعة من رفاقه، في حين كان الراحل خالد بكداش يلتزم بحرفية منطوق النضال الطبقي بما يجعل اليسار الإسرائيلي أقرب إليه من اليمين العربي حتى لو اعترضت الطريق قضية لها مثل ما لفلسطين من قداسة.
الثنائي الباهرك جورج ومحسن والإبحار عكس التيار
تحتاج المناقشات بين قائد ثورة الفاتح معمر القذافي والقائد الشيوعي جورج حاوي في طرابلس الغرب إلى مجلدات، لحيويتها وطرافتها وفرادة الأفكار والآراء والاجتهادات التي طُرحت خلالها بهدف التوفيق بين أدبيات الماركسية والحركة الشيوعية عموماً ومقولات الكتاب الأخضر الذي أبدعه الأخ معمر ليكون الأساس للنظرية العالمية الثالثة التي يرى فيها الحلول النهائية لكل ما تعاني منه الإنسانية من مشكلات فكرية وإشكالات ناجمة عن التضارب والتمايز بين العقائد والأديان. وغالباً ما كانت النكتة أرض التسوية للخلافات الفكرية! وكان محسن إبراهيم يتبادل مع جورج المواقع: هذا يهاجم وذاك يدافع حتى يتم تسجيل الهدف!
أما مناقشاته مع القيادة السورية، وقد ظلت مفتوحة، بقرار منه، حتى يومه الأخير، فكانت براغماتية و مباشرة ، وتتركز حول اليومي من الشؤون السياسية، وبين أبرز عناوينها موقع الحزب الشيوعي في النظام اللبناني الذي أعادت صياغته القيادة السورية وتولت مباشرة توزيع المغانم والمكاسب والمناصب، نيابات ووزارات وإدارات عامة ومشروعات حيوية..
وأيضاً كانت النكتة والطرفة والواقعة الكاريكاتورية المدخل إلى الاتفاق، وكان محسن إبراهيم، أيضاً، الشريك، دفاعاً وهجوماً..
فأما مناقشاته ومسامراته ومداولاته والمناورات المشتركة التي أسهم في وضعها وفي تنفيذها مع قيادة حركة المقاومة الفلسطينية، سواء ما يتصل منها بالعلاقات مع لبنان، بكل مكوناته، أو مع القيادة السورية، بكل براعاتها في التكتيك، فإن صاحب الحق الحصري في الحديث عنها هو رفيق جورج وصديقه وشريكه الفكري في إبداعات المخارج ولو على شكل نكات، ومواجهة المواقف الحرجة بالطرائف والابتكارات الخلاقة: محسن إبراهيم.
وأما العلاقة مع الشهيد كمال جنبلاط فتحتاج وحدها إلى تسجيل لتكون مرجعاً لأي عمل وطني في ظروف التحول.
اختصاراً: يمكن القول إن التاريخ الفعلي للمرحلة الممتدة بين أوائل السبعينيات وأواخر القرن الماضي، بكل ما حفلت به من أحداث خطيرة ومن تحولات فكرية هائلة بانعكاساتها العملية على الواقع السياسي للعالم عموماً، وأحوال الوطن العربي وقواه السياسية خصوصاً، سيذكر اسم جورج حاوي (ومعه غالباً اسم محسن إبراهيم) في العديد من صفحاته.. لا سيما عند محطات تحويل الاتجاه، وما كان أكثرها وأخطرها.
بطل التغيير والخروج من التقديس
كان جورج حاوي، بتاريخه الغني بالتحولات، مختلفاً جداً عن ذاك الذي احتفل المحتفلون باستشهاده، ونسبوه إليهم بعد غيابه، وادعوا صداقته بينما كانوا خصومه في حياته، وخصوم أفكاره بالأساس.
ومع أنه يستحيل تلخيص هذه الشخصية الخارقة، فمن الممكن الإشارة إلى بعض مزاياه التي أثرت في جيل كامل وربما في جيلين من شباب لبنان، إيجاباً في الغالب الأعم، وسلباً في العديد من الحالات:
إنه بطل التغيير في الحركة الشيوعية العربية: لقد أسقط الحدود بين الأممية والقومية والوطنية، وأسهم مع رفاق له في ابتداع شيوعية وطنية عربية من طبيعة خاصة… وليس ذنبه أن المركز قد سقط بينما التيار الجديد لمّا تتيسر له الظروف الملائمة للنمو والتكامل والقدرة على الفعل.
ثم إنه أول من كسر الهالة حول القائد الشيوعي التي غالباً ما حوّلته إلى صنم يكاد يُعبد، كما جرى في حالات مشهودة في الحركة الشيوعية في العراق وفي سوريا وفي مصر (كان المؤتمر العام لبعض الحركات الشيوعية العربية يفتتح بهتاف: فليعش الرفيق الأمين العام ألف عام!!).
والأهم أن جورج حاوي عاش إنساناً: يعرف الفرح ويسعى إليه، يغب من نهر الحياة غباً. لم يكن قديساً ولم يحب القديسين. لم يكن حرفياً ولم يتقيّد أبداً بنص مكتوب لا في كتاب ولا في خطاب. لقد شرب وغنى وفرح، سهر وساهر، رقص وراقص ووزع الفرح على كل من حوله ولم ينس أبداً شخصه.
أبو أنيس الشهيد هو غير ذلك الذي أنتجه الغرض خلال الاحتفالات التي غاب عن العديد منها بعض الذين لا تكتمل صورة جورج حاوي إلا بهم، فكيف بدوره في بلده وفي محيطه العربي.
رحم الله الشهداء، ولنحم لهم صورتهم الأصلية التي عرفناهم عليها فأحببناهم، بكل مزاياهم وأخطائهم، عيوبهم ومباذلهم، خيباتهم وانتصاراتهم التي أنجزوها وهم يضحكون.
الرقص وداعاً
انتشر الفرح هواء منعشاً. تقافز الفتية في اتجاه حلبة الرقص، ووقفت السيدات الانيقات على عتبة صباهن المتجدد يصفقن ويتمايلن على الايقاع، بينما الرجال الوقورون ينفثون تحليلاتهم السياسية مع دخان السيجار.
امتلأت الحلبة تماماً حتى لم تتبق مساحة للمطرب الا فوق اكتاف المعجبين بينما المعجبات يتزاحمن لتكون كل منهن الأقرب فتحظى بحبات العرق المتساقطة من مصادر كثيرة.
… وكانت تقف وحيدة، بين بقعتي ضوء، بينما ظلها يتطاول مع ارتعاشات النور حتى يمحي تماماً.
انتبهت الى انه يحدق فيها فانفلتت عائدة في اتجاه طاولتها وهي تلوح بيمناها كمن يطرد خاطراً رديئاً او فكرة شريرة… ثم لم تلبث ان اندفعت في اتجاه الحلبة، وشدت المطرب من قميصه ليراقصها. وحين تقدم منها والد العروس فاتحاً ذراعيه لعناقها همست بغلّ: لك الفرح ولي مرارة الوحدة… لكن حبي اعظم من ان يترك لتهوري اصطناع الفضائح. مبروك.
وبعدها اتسعت الحلقة لها وحدها ترقص وداعاً لحبها الكبير.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
تعبت من الحب فسافرت بوهم ان اعطي نفسي اجازة منه… لكنني وجدته قد سبقني الى فندقي. وحين قصدت مقهى انتبهت الى انه يحتل جميع المقاعد، إلا المقعد الأخير في طائرة العودة.