تتهاوى يوماً بعد يوم ثقة اللبنانيين بإمكان اجتراح حل سحري لأزمتهم السياسية التي تزيد من قلقهم على المصير خصوصاً أنها تقف بهم على حافة الفتنة… ولم تكن التصريحات الأميركية التي واكبت لقاءات نيويورك قبل يومين سبباً في زيادة الاطمئنان، على أي حال.
كذلك فإن التطورات الخطيرة التي تعصف ببعض الكيانات السياسية القائمة، كما حال السودان الذي يجري شطره سودانين، تبعث ببعض الذكريات السوداء للحرب الأهلية إلى الواجهة، خصوصاً في ظل «الابتهاج» العربي الرسمي «بالديموقراطية» التي واكبت تشطير السودان بينما غابت وتغيب مثل هذه الديموقراطية عن الدول التي يحمي أهلها وحدتها بدمائهم!
بالمقابل فإن انكشاف أنظمة الحزب الواحد ملخصاً برجل واحد، عبر مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية الداخلية بالتصدي للمتظاهرين برصاص القتل، كما حصل في الجزائر وتونس، قد زاد من خوف اللبنانيين على استقرارهم في ظل عجزهم عن مواجهة أعباء حياتهم ودولتهم مغيّبة وسلطتهم مشروخة بما يزيد من مخاطر انفجار الشارع الذي يسهل تحويله إلى فتنة… والمحكمة الدولية صاعق تفجير لا يقل خطورة عن افتقاد الأمن الاجتماعي.
على أن أكثر ما أقلق اللبنانيين وأوجعهم إنما يتمثل في التداعيات الخطيرة لجريمة تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية بالمصلين استقبالاً لعيد الميلاد المجيد، خصوصاً أنها نكأت جراحاً غائرة، وأعادت طرح مسائل جدية بينها مسؤولية الدولة في التعامل مع شعبها كوحدة اجتماعية، لكل مواطن فيها حقوقه الكاملة، بغض النظر عن دينه أو طائفته.
ولقد أفزع اللبنانيين أن يروا السفراء الأجانب يتصرفون في أكبر دولة عربية وأعرق المجتمعات وأمتنها وحدة كما يتصرفون في لبنان الذي استولد سياسياً بكيانه الطائفي، إذ انهم توجهوا إلى المرجعيات الدينية لتقديم التعازي وليس إلى مرجعيات الدولة (رئيس الجمهورية وزارة الخارجية..).
.. هذا في الوقت الذي باشرت دوائر القرار في عواصم الغرب، إعادة إثارة «المسألة الشرقية» و«مصير المسيحيين في الشرق»، بمنطق يشابه ذلك الذي سبق أن اعتمد فمهّد للحروب الصليبية وواكبها وحاول تبريرها بـ«اضطهاد» المسلمين لإخوتهم المسيحيين، وهم الذين يتحدرون في الغالب الأعم من أصل واحد، وكثيراً ما انقلب بعضهم من دين إلى آخر أو من مذهب إلى آخر فصارت العشيرة بدينين أو مذهبين أو أكثر، بغير احتياج إلى الحرب الأهلية… هذا إذا ما تجاهلنا أن الحروب ذات الطابع الديني قد جرت في الغالب الأعم بين مختلفين فقهياً داخل الدين الواحد وليس مع أتباع الدين الآخر (وهذا ينطبق على المسيحيين كما على المسلمين..).
[ [ [
من هنا فإن تسليم الناس، عموماً، بانفصال الجنوب في السودان عن دولته المركزية، ناتج عن تمنيهم أن يشكّل خاتمة منطقية لدهر الحرب الأهلية التي فرض على هذا الشعب الطيب أن يعيش داخل أتونها، لولا الاشتباه بالرعاية الأميركية المباشرة التي زجت بالدين في اللعبة السياسية داخل «الكيان» المستولد حديثاً والذي يشكّل المسيحيون فيه نسبة ضئيلة من سكانه بالمقارنة مع أتباع العبادات الأفريقية المتعددة وكذلك مع المسلمين فيه.
وفي ما خص لبنان، فإن تصريحات بعض كبار رجال الدين التي حاولت توظيف المأساة المصرية، متزامنة مع الانفصال في السودان، في الأزمة الداخلية في لبنان، بأبعادها الطائفية والمذهبية، كانت تصب المياه في طاحونة «الجهود الدولية» لتفجير الفتنة…
.. خصوصاً أنها استخدمت مأساة الأقلية المسيحية في العراق ثم عززتها بالتفجير الدموي الخطير في كنيسة القديسيْن في الإسكندرية، قافزة من فوق حقيقة أن العراقيين بمجموعهم، كما المصريون بمجموعهم، وبالتالي العرب (المسلمون) في مختلف أقطارهم قد عاشوا هذه المأساة باعتبارها كارثة قومية تمسهم في عروبتهم كما في تدينهم.
وربما كان من الأحوط لو أن رئيس الجمهورية قد توجّه إلى السفارة المصرية لتقديم العزاء بدلاً من الذهاب إلى الكنيسة القبطية في بعض ضواحي بيروت، فتفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية كان اعتداءً صارخاً على مصر كلها، بدولتها وشعبها بالمسلمين فيها والأقباط… وهو قد اتخذ الكنيسة هدفاً بهدف تفجير الفتنة في دولة تعيش أزمة سياسية ـ اقتصادية ـ اجتماعية حادة لا تنفع في علاجها التدابير الأمنية والخطب المجففة المتبادلة بين الشيوخ والقسيسين، والتي كلما سمعنا مثيلاتها في لبنان ازددنا خوفاً وغادرتنا الطمأنينة.
[ [ [
علينا الاعتراف بأن قلق اللبنانيين يتزايد مع تعاظم الاهتمام الدولي بشؤونهم، فكيف وموضوع الاستثمار المتوحش منذ ست سنوات إلا قليلاً يتمثل في الجريمة الفظيعة التي أودت بحياة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
ومتى اتخذت السيدة هيلاري كلينتون موقع القاضي ومساعدها الذي لا يمكن أن ينساه اللبنانيون، السفير جيفري فيلتمان موقع المدعي العام، يصبح معلوماً نوع العدالة المدمرة التي يُقاد إليها هذا الوطن الصغير.
فبين الدعوة إلى «وقف الحرب ضد المسيحيين في المشرق»، واستخدام دماء الشهداء في لبنان، ثم في مصر، لإيقاظ الفتنة، مرة بين المسلمين والمسيحيين ومرة بين المسلمين والمسلمين، كما جرت المحاولة في العراق وكما تجري الآن في لبنان (وغداً في اليمن وأنحاء الخليج وصولاً إلى السعودية ذاتها) يتبدى المخطط الذي يستهدف استقرار هذه المنطقة عبر ضرب الوحدة الوطنية داخل كل دولة من دولها.
وحسناً فعلت مصر حين أعلنت بلسان مسؤول كبير فيها أنها ترفض «التدخل الخارجي والغربي تحديداً في الشأن العربي من خلال ما يتم الترويج له من مساعدة مسيحيي الشرق أو التدخل لحمايتهم».
إن هذا التدخل الخارجي المكشوف يسرع في تأجيج الفتنة وفي توسيع دائرة النار، إذ إنه يبرر منطق «القاعدة» وسائر تنظيمات التطرف الديني (كمدارس الأحد في مصر) والدعوات إلى «تطهير» المناطق لضمان صفاء لونها الطائفي كما اقترح وزير لبناني خاب أمله في «الاعتدال» عندما تعذر عليه الوصول عبره إلى سدة الرئاسة فاندفع يزايد طائفياً على عتاة الطائفيين حتى سبق رجال الكنيسة، محرماً بيع الأراضي لأبناء الطوائف الأخرى فارضاً على الطبيعة ما يخالف رحابتها وسمتها الجامعة باعتبارها أرض الوطن..
ومؤكّد أن مثل هذه الدعوات التحريضية الآخذة إلى الفتنة كانت قد فقدت قدرتها على استيلاد الشعبية لو أن الطبقة السياسية في لبنان مضت قدماً على طريق إلغاء الطائفية السياسية، وفق ما نص عليه اتفاق الطائف وجدد الدعوة إليه رئيس المجلس النيابي من موقعه وعبر تجربته الغنية التي أوصلته إلى الاقتناع بأن هذا الوطن الصغير يسير بقدميه نحو مخاطر التقسيم والتفتت ما ظلت الطائفية هي الاستثمار الأنجح والطريق الأقصر إلى الزعامة والثروة ولو على حساب ما تبقى من صورة «الوطن» ومن حق لأجياله الجديدة بالعيش الكريم فيه.
[ [ [
ليس العام الجديد مبشراً، والعيب ليس فيه، بل في أن أهل النظام العربي قد تنازلوا عن استقلال قرارهم في مقابل استرضاء من يفترضون أنهم مصدر القرار الدولي، وها هي أوطاننا تدفع الثمن ويتدافع أبناؤها إلى السفارات للحصول على تأشيرة خروج من جهنم أنظمتهم إلى «نعيم» الغربة.
هل ننسى مشهد المليون جزائري (أبناء المليون شهيد في ثورتها العظيمة) وهم يستقبلون، قبل سنوات، الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، مهللين وهم يهتفون «فيزا فيزا»؟!
إن الوجه الآخر لهذا المشهد، الآن، في تونس كما في الجزائر، سقوط المواطنين المسحوقين بالعوز شهداء إما بإحراق أنفسهم وإما برصاص إخوتهم من رجال شرطة النظام الذين يقدمون لهم بسخاء «فيزا» إلى الجنة هي في تقديرهم أفضل من «جحيم الغربة».
ويبقى أن نتمنى سرعة انتهاء الحوار الموصول منذ شهور حول «التسوية» في لبنان التي تعب اللبنانيون من انتظارها، خصوصاً أن شبابهم يحترقون بنار العوز ولا يجدون الأبواب مشرعة إلى «النعيم» في الخارج لأن «الفيزا» تعز على محتاجيها المتزاحمين على أبواب السفارات.