يوماً بعد يوم تعيد الانتفاضات الشعبية في عدد من الأقطار العربية، الاعتبار الى “الناس”، “الجماهير”، “الشعب”، فيستعيد شعوره بحقه في القرار ويؤكد قدرته على التغيير، وأهليته لأن يبني ـ بإرادته الحرة ـ غده الأفضل. برغم ان بعض هذه الانتفاضات قد “صودرت” وتم حرفها عن مسارها، كما حدث “لانتفاضة يناير” في القاهرة ليستولي عليها “العسكر”، بعدما أزعجه أن تكون “الجماهير” هي قيادة التغيير وان تكون هي مصدر القرار.
كانت البداية مع الانتفاضة الشعبية العربية الأولى في تونس والتي عُرفت باسم بطلها “البوعزيزي”، قد نجحت بإسقاط الطاغية المختل بن علي وزوجته “الكوافيرة” محبة الجواهر واللآلئ والنقد المذهب..
بعدها بأقل من شهرين شهدت ميادين القاهرة وساحاتها، وأساساً ميدان التحرير في قلب عاصمة المعز تظاهرات مليونية حاشدة استمرت أياماً طويلة حتى استسلم الرئيس حسني مبارك فاستقال وكلف الجيش الذي اختار قاضياً محترماً للإشراف على المرحلة الانتقالية.. وبعدها جرت انتخابات نيابية ورئاسية فاز فيها “الإخواني” محمد مرسي، منتصراً على عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير الخارجية الأسبق في مصر، والمرشح الناصري حمدين صباحي.. لكن الجيش تدخل، مرة اخرى، وجاء بقاض محترم لفترة انتقالية تمهيداً لمجيء الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي بادر فوراً الى ترقية نفسه الى رتبة ماريشال بذريعة أن يكون له حق الإمرة على القيادات العسكرية العليا في الجيش.
وبديهي أن يجدد السيسي لنفسه ولايته وان يمد أجلها.. حتى إشعار آخر.
لكن الجزائريين فاجأوا اخوانهم العرب بانتفاضتهم ضد الرئيس الممدد لنفسه (بقوة الجيش) ثلاث مرات من قبل، والذي كان يسعى الى ولاية خامسة، برغم انه كان قد أصيب بالشلل، وصار يحكم (والجيش خلفه) من فوق كرسي متحرك..
وها هم الجزائريون يوصلون انتفاضتهم، برغم اكراه بوتفليقة على الاستقالة وتولي الجيش زمام الأمور..
لكن الجزائريين يطالبون ببعض “المحرمات” كالديمقراطية وانتخابات نيابية حرة تتولى انتخاب رئيس جديد للبلاد التي قدمت أكثر من مليون شهيد طلباً لاستقلالها والتحرر من “الفرنسة” التي حاول الاستعمار الاستيطاني الفرنسي فرضها على شعب المليون شهيد واحمد بن بلة وجميلة بوحيرد وزهرة وسائر عناوين الجهاد.
الأمة قادرة، إذن، وهي ولادة، لا تكف عن الانجاب وهي في قلب الفقر، طلباً لغد أفضل ترى أن تاريخها يسمح لها أن تعتبره من حقها..
ومخطئ من يظن أو يروج لمقولة أن الأمة تحاول وتسعى وتريد استعادة ماضيها.. فالأمة تعرف أن الماضي ليس الأب الشرعي للمستقبل الذي تبنيه الأجيال الجديدة التي عانت القهر والاذلال وتزوير إرادتها والعبث بمصيرها.
الشعب يريد حكاماً منه، لا يفرضهم الأجنبي، وينصبهم العسكر ممثلين لإرادته.
الشعب يريد أن يمتحن نفسه باختيار حاكمه، وهو مستعد لأن يتحمل نتائج الخيار، إذا ما أخطأ، واثقاً انه قد اغتنى بالتجارب بحيث بات يعرف انه يختار الأنظف من الرجال والأنزه والأقرب الى الناس، يحس بمواجعهم وحاجاتهم ويعمل لتلبيتها طلباً لرضا اهله وخير بلاده، وهذا سلم نجاحه.
والأمة تنتظر مصر، وتنتظر سوريا، وتنتظر العراق لتحمي نفسها من غاز قطر ونفط السعودية وأطماع الإمارات في أن تغدو امبراطورية بنصف المليون من شعبها التائه ضمن الخمسة ملايين وافد، أغلبهم من غير العرب (الهند، باكستان، الفيليبين وبلاد أخرى بلا أسماء)..
وعسى أن يجيء الفجر بعد هذا الليل الطويل..