مع وعي الناس بأن ليلة رأس السنة ليست نهاية التاريخ ولا خاصة بدايته، إلا انهم يتخذونها عادة فسحة للتمني ويجعلونها عيدا للرجاء بتغيير نحو الافضل.
ولعل أمنيات اللبنانيين خصوصا والعرب عموماً كادت تتلخص في الا يجيء العام الجديد مجللاً بحزن الفقد والفجيعة وضمور الآمال بالتغيير وسائر النوائب التي كادت تعطي اسماء لشهور العام المنصرم ان لم يكن لأيامه جميعا.
فالحزن لا يلف بالسواد لبنان وحده، بل هو يكاد يجلبب الوطن العربي كله، وبالذات منه مشرقه.
لقد اطل العام 2005 على لبنان مثقلاً بخطيئة التمديد الذي اعطى غطاء داخلياً لتدخل دولي مباشر (القرار 1559) سهل تمريره تردي الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيه، وانكشاف الدور السوري بعد تضعضع صفوف حلفائه، وافتتاح مرحلة الاغتيالات السياسية.
ثم كانت الكارثة الوطنية، بل القومية، بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري التي اصابت لبنان، ومعه سوريا في الصميم.. وتفجر الغضب مدويا ومستدعيا المزيد من القرارات الدولية (القرار 1595) وتشكيل لجنة التحقيق الدولية.
توالت التداعيات متسارعة لتخلق وضعا مختلفا تماما في لبنان، وبين لبنان وسوريا: اهتزت صورة السلطة المركزية في بيروت، وازداد موقع رئيس الجمهورية ضعفاً، ثم اضطرت القوات السورية الى الخروج من لبنان بصورة غير لائقة لا بها ولا بطبيعة العلاقات الاخوية بين لبنان وسوريا، وصار النظام الأمني اللبناني السوري المشترك موضع مطاردة يومية حتى تم اعتقال »الرموز الاربعة«. واجريت الانتخابات النيابية بالامر، في ظل حكومة بين العهدين التي كانت السلطة فيها مشروخة، وانتهت بالنتائج المعروفة التي لا تكفي لاستكمال التغيير، وتسلم جماعة 14 آذار السلطة بالكامل، وتفرض شراكة اضطرارية بين مختلفين سياسيا.
صار التحقيق هو المدخل الى التغيير، اما انجاز التغيير ومداه فيرتبطان بمدى تقدم التحقيق وانكشاف المحرضين والمخططين والمنفذين لجريمة اغتيال الحريري.
هذا في لبنان، اما في فلسطين الغارقة بعد في دمها فقد زادت التشققات داخل الصف الوطني وتعاظمت الخلافات (على السلطة؟) بين رفاق السلاح، بينما العدو الاسرائيلي يكمل ما بدأه من تجريف للاراضي ومصادرة لمناطق بكاملها (في القدس خاصة، لتهويدها بالمطلق) كي يقوم جدار الفصل العنصري حدوداً من اسمنت مسلح بالطيران للدولة العبرية، بينما تعزل غزة »المحررة« وتترك للاشتباكات المفتوحة بين الاخوة في الجبهات المصطرعة.
بالمقابل فإن اسرائيل ارييل شارون تزداد قوة ونفوذا على المستوى الدولي، ويتعاظم تغلغلها داخل العديد من المجتمعات العربية، بتسهيلات نافرة من انظمتها الراكضة بغير دعوة الى صلح ظالم لاهل القضية.. اما شارون نفسه فها هو يجدد »نفسه« بفرط التجمع السياسي الذي كان يرأسه ليبني تجمعا جديدا لا ينافسه في قيادته منافس.
وأما العراق الذي يشهد تحت الاحتلال الاميركي عملية تدمير منهجية لوحدة شعبه ووحدة ارضه وصورة دولته العتيدة، فإن العمل جار لتمويه قضيته السياسية بتفجير الاختلافات في العنصر او حتى في المذهب بين ابناء الدين الواحد، ويقدم للشعب المقتول يوميا على ايدي عصابات التطرف البديل الاميركي الباهر: الديموقراطية.
تكفي هذه العينات من الواقع، سواء داخل لبنان او في محيطه القريب، كي نتفهم الاسباب في تمني الناس الا تكون السنة الجديدة امتداداً للعام المنصرم المثقل بالجريمة والدم واغتيالات احلام الشعوب.
***
على ان نهاية السنة قد شهدت حدثا بالغ الاهمية والدلالات يتمثل في الاطلالة المفاجئة للنائب السابق لرئيس الجمهورية العربية السورية عبد الحليم خدام في شهادة متفجرة ضد »نظامه« الذي عمل في اطاره وزيراً ونائبا للرئيس طوال اربعين سنة او يزيد.
وشهادة خدام »لبنانية« بامتياز، وان كانت تصيب النظام السوري في الصميم، اذ تطاول رأسه فضلا عن وزير خارجيته ومخابراته ممثلة بمسؤولها في لبنان العميد (الذي رقي بعد اخراج القوات السورية الى رتبة لواء، وتولى متابعة مهماته من محافظة ريف دمشق المطلة على لبنان شرقاً وشمالاً..).
ماذا تعني هذه الاطلالة المباغتة من »السيد النائب« بعد ستة شهور من خروجه من السلطة جميعا (الحزب والموقع الرسمي) والتي كان اخطر ما تضمنته اعادة توكيد للاتهامات التي طاولت النظام السوري بمسؤولية مفتوحة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، ذلك هو السؤال الذي يطرحه الجميع، ذاهبين مع التخمينات الى ابعاد غير منظورة، لعل خدام نفسه لا يقصدها او هو لم يكن يقصدها.
يستحيل على اللبنانيين ان يعتبروا خروج عبد الحليم خدام على نظامه الذي عاش في كنفه منذ شبابه الاول، ومنه استمد نفوذه الخطير، ولا سيما في جانبه اللبناني، والحملة التي شنها من باريس (وعبر محطة فضائية مملوكة من سعوديين كبار) على هذا النظام، شأنا داخليا سوريا، او مجرد موقف شخصي يقصد اراحة الضمير، بكشف الستار عن وقائع يعذبه ان يحفظها في صدره ولا يعلنها على الملأ.
فعبد الحليم خدام كان »الاكثر لبنانية« في النظام السوري، بمعنى انه يعرف هذا البلد الذي وقع مصيره في اليد السورية على امتداد ثلاثين عاما، بكل التطورات التي شهدها منذ انفجار الحرب الاهلية في العام 1975 وحتى تولي الدكتور بشار الأسد مهام الرئاسة خلفا لوالده الكبير حافظ الأسد.
انه يعرف الساسة جميعا، مواليهم والمعارض، والبين بين، يعرف اسرهم واحوالهم الخاصة والعامة، ويعرف رجال الاعمال والقادة من النقابيين، ويعرف الاعلاميين، ويعرف طبيعة العلاقات الخاصة بين الساسة اللبنانيين والعواصم العربية (والاجنبية احيانا).
وله صولات وجولات طالما حفلت بالحدة مع رجال الدين والدنيا، حتى يكون ما اتى به او ما اخذهم إليه هو القرار (لبنانيا).
ومع ان دور خدام قد تراجع بعد ذلك كثيرا، فصار اقرب الى المستشار الذي لا يستشار الا نادرا، في الشأن اللبناني، الا انه بقي في »الصورة«، يجاهد لتأكيد حضوره عبر قيادة الحزب، خصوصا وهو قد صاغ برنامجا للاصلاح السياسي والاقتصادي يسفه كل دعاوى ذلك النفر من الناشطين الذين يتحركون تحت رعاية الرئيس بشار الأسد، بداية، ويحرض عليهم ويسفه ما اطلق عليهم مجازا »ربيع دمشق«.
فعبد الحليم خدام مع حافظ الأسد ليس هو هو مع بشار الأسد، لان الابن الذي غدا رئيسا لم يكن يريد ان يبدو »الفتى قليل التجربة« مع »الكبار المجربين« لذلك عمل على ابعادهم جميعا، واذا كان قد استثنى خدام فلأن الرجل المحنك حصر نفسه في مدى ما يطلبه »السيد الرئيس« منه.
وهكذا فإن »ابا جمال« كما يعرفه اللبنانيون، امضى السنوات الخمس الاخيرة، اي مع ولاية بشار الأسد، بلا عمل تقريبا.. بل ان من كان يزور دمشق في تلك الفترة كان يعود منها بانطباع مفاده ان عبد الحليم خدام قد بات »معارضا« من داخل النظام.
ومعروف للقاصي والداني ان عبد الحليم خدام (اضافة الى العماد حكمت الشهابي واللواء غازي كنعان) كان اقرب الاصدقاء السوريين الى قلب الرئيس الراحل رفيق الحريري، والعكس صحيح..
من هنا يمكن ان نفهم ان تلقي خدام لصدمة اغتيال الرئيس الحريري، بكل ما اثارته من شبهات حول دور سوري مباشر (او عبر النظام الامني اللبناني السوري المشترك) قد خلخلت ارتباطه بنظامه، وجعلته على باب الخروج منه (وعليه؟).. وهو قد انتظر مؤتمر حزب البعث في حزيران الماضي (بكل ما حفل به من استهانة بدوره وتجريح فيه) ليخرج بهدوء، منتظراً الفرصة كي يقول ما كان يتعذر عليه قوله من قبل.
لقد تحول عبد الحليم خدام من ركن اساسي في النظام الذي عاش عمره في كنفه الى »شاهد« عليه.. خصوصا وقد رد عليه »نظامه« بأن وجه إليه تهمة »الخيانة العظمى«.
وبالتأكيد فإن لجنة التحقيق الدولية ستفيد من اقواله التي كان لها دوي الزلزال، كشاهد ملك في سعيها لكشف الحقيقة في جريمة الاغتيال.
ومن البديهي ان يرد النظام ليس فقط بطرد هذا الشريك في المسؤولية (ولو سابقا)، بل بمطاردته بوصفه خائناً للوطن والحزب فضلاً عن الرئيس.
***
التمنيات كثيرة، لكن المناخ السائد في المنطقة، عموما، وفي العلاقات اللبنانية السورية خصوصا بعد »اعترافات خدام«، لا يتيح المجال لكثير من الأمل بتحققها.
وفي حين يتوقع كثيرون ان تكون هذه الاعترافات بداية لمرحلة اشد صعوبة وضيقا، فإن واجب التفاؤل يقضي بأن نقول ان العلاقات اللبنانية السورية تظل اعظم صلابة من ان تذهب بها اخطاء بعض الرجال او خطاياهم.
وتفاءلوا بالخير تجدوه، كما قال الاقدمون.