هاجرت الكلمات، هي الأخرى، ملتحقة بأدمغة أصحابها الذين افتقدوا الأرض، فجأة، ثم اكتشفوا أنها سحبت من تحتهم، فلحقوا بها، لكن الشمس ظلت في انتظارهم تبث الدفء في الزرع الجديد.
ومن البعيد، وبعيون أقدر على الإبصار وأكثر وعياً بالحقيقة التي تكشفت أمامهم، قاسية كالغربة، غريبة مثل السياسة، معقدة كاقتصاد السوق، عاد أصحابنا يخاطبوننا، ويديرون حواراً وحيد الطرف لأن ”الآخر” يرفض أن يعترف بهم فيشاركهم متعة الألم وأحزان الضياع.
ها هو منير العكش، يحاول مرة أخرى.
الصمت لا يزهر أحلاماً ولا يصنع وعياً، والكلام قد يمتد سنين قبل أن يجد جمهوره وقبل أن ينبت أرضاً لجيل التغيير. لكن لا بد من المحاولة ومن الاصرار على المحاولة، لا بد من أن يثقب الجدار، فيعبر شعاع شمس إلى البقاع المعتمة. لا بد من أن تنتزع الاعتراف بك، وبأنك مختلف، وبأن الهموم التي خلفك لا تنفصل عن الآمال التي تنتصب أمامك وتتحداك وتشدك إليها.
“جسور”، هي محاولة اليوم.
قبل ثلاث سنوات أسس منير العكش هذه المجلة الثقافية الفصلية، وأخذ يصدرها عن دار ”كتاب” في واشنطن، وأعطاها توصيفها الموضوعي ”عربية أميركية، متعددة اللغات، للتبادل الثقافي والتفكير في المستقبل”.
أما هيئة التحرير فقد ضمت: حليم بركات، جمال أبو حمدان، محمود درويش، إدوار الخراط، ضياء العزاوي، روجيه غاردن، إدوين (تيد) كينيدي، محمد عفيفي مطر، دانيال مور، حسين هواري.
ولكل عدد من ”جسور” رئيس تحرير ضيف، أما أمانة التحرير فتتولاها أميرة الزين.. ورئيس تحرير العدد 5/6 الذي تلقيناه أخيراً هو نصير عازوري.
في تقديم العدد الجديد، وبين الفهرس والافتتاحية، لقطة موفقة، تكاد تقول كل ما سوف تقصر عنه المقالات والأبحاث والقصائد والمحاورات المنشورة فيه.
اللقطة مقطع من قصيدة لزعيم هندي أميركي هو بلاك اللكان، يقول فيها:
“من أعلى هضبة عمري المرتفعة،
ها عيناي تخترقان الماضي،
وآه! ما زلت ارى في منعطفات الوادي الغائر؛
أطفالاً ونساء مذبوحين.
كأن عيوني في عز صباها ترعى أكوام القتلى والجثث المنثورة حول مسيل الماء.
وترى أبعد من هذا في الوحل الدامي،
أحلاماً تحت ركام الثلج مدفونة.
الأحلام الرائعة لشعبي،
ماتت فيها..”.
في الستينيات، كانت منظمات الطلبة والمتخرجين العرب خزانات من الحماسة القومية، تكتل الشباب العربي الذي قصد الديار الأميركية للدراسة ولإعداد الذات بالمؤهلات الكافية لمقاومة الامبريالية ومكافحة الصيهونية وتحرير الأرض العربية وإنسانها.
كان الشباب، الذين يعرفون أنهم عائدون، وان معركتهم الأصلية في أقطارهم، لا يهتمون كثيراً بالمجتمع الذي يعيشون ويدرسون فيه. بل لعلهم كانوا يصلون إليه تتقدمهم عدائيتهم. ولذا كانوا يستمرون في سماع وفي ترداد ما يقال في عواصمهم، ولا يهتمون حتى بإيصاله إلى الآخرين. كانوا يعيشون في جزيرة تصطنعها أحلامهم ورؤاهم، لا يريدون ولا يعملون لكي يكسبوا الأميركيين أو ليكسروا حاجز الفكرة الثابتة عنهم في الذهن الأميركي. وربما كان من سبقهم قد سجنهم في يأسه من امكان التغيير.
ولعله قد طال الزمن قبل أن ينتبه الأساتذة والطلاب العرب إلى أنهم يستطيعون أن يؤثروا ولو بحدود، وعليهم أن يحاولوا في أي حال، فذلك أجدى من التلطي وراء لوم الآخر أو وراء التعذيب اليومي للذات بتهمة القصور أو العجز.
“جسور” تجيء ثمرة طيبة أخرى بعد كثير غيرها مما أعطاه جهد الدارسين العرب، سواء من بات أميركي الجنسية منهم أو من بقي عربياً، أو من هو مجرد عابر يهيّئ نفسه للعودة إلى المجهول العربي، الذي ينتظره.
انها تقول الكثير مما ينفعنا نحن، والكثير مما ينفع الأجيال العربية التي ولدت أميركية هناك، والتي تبحث عن رابط ثقافي مكين يؤكد صلتها بأرضها الأصلية ”في الوادي الغائر”.
لقد شح القول هنا. فالكلمات باتت عجافاً، والرماد يغطي الأفق بعد السلسلة الطويلة من الانتكاسات والخيبات واستطالة القمع العربي الذي يكاد يسلمنا الآن إلى السلام الاسرائيلي، وعبر هذا ”الاميركي” الذي تخاطبه ”جسور” بالذات.
ومن المفيد، قطعاً، أن تبدأ، من هناك، محاولة جديدة لإحياء النقاش مع ”الخصم”، مع أنه سيظل مضبوطاً في حدود الحوار الداخلي بين ”المواطن” و”النظام”… فالعربي الأميركي الآن سيناقش نظامه الأميركي في سياسته العربية، من داخل منطق مصالحه، وباستخدام حقه كمواطن في أن يعرف.
لعلنا، نحن هنا، نفهم معه، ما لا بد من فهمه لكي نعرف إلى أين يمضون بنا، ”عبر هذا الوحل الدامي حيث دفنت الأحلام الرائعة لشعبي”.