لم »تغتصب« القدس، هذه المرة. لقد سلّمها أصحابها.
لقد قطع الكونغرس الأميركي رأس القدس الشريف لحساب إسرائيل بسيف »عربي«. لم يؤخذ أصحابها غيلة، ولم يقتحم الإسرائيليون الأبواب عنوة، ولم يلجأ الأميركيون إلى الحيلة.
تمّت الجريمة جهارù نهارù وعلى مشهد من العالم كله، وبحضور ذوي الشأن ومباركتهم شخصيù.
ولقد نال الرئيس الأميركي الذي كان تعهّد بهذا الانجاز، وهو بعد مرشح نكرة قبل ثلاث سنوات، مكافأة خيالية لا يجود بمثلها إلا ابن عائلة مالكة لم تبذل قطرة عرق واحدة من أجل جني الثروة الخرافية التي تتمتع بها، والتي تسفحها رخيصة على أعتاب »حماتها« الذين أخذتهم مصالحهم (وجلّها عربية) إلى التحالف مع أعداء الحق العربي والتاريخ العربي والوجود العربي ذاته!
فالتوقيع السعودي على الصفقة المرجأة منذ سنوات لشراء طائرات ركاب أميركية جاء بتوقيته (كما بحجمها!!) أقسى من قرار الكونغرس الأميركي الاعتراف بالقدس الشريف »عاصمة موحدة وأبدية« لإسرائيل.
مَن لا يملك يعطي (من أرض العرب ومن حقوقهم ومن مقدساتهم) مَن لا يستحق، فيكافئه العرب بستة مليارات دولار ثمنù لطائرات لا تحتاجها مملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض والتي تملك واحدù من أكبر أساطيل الطائرات المدنية في العالم (خصوصù إذا ما تمّ احتساب الطائرات الخاصة..).
والتبرير أقسى من القرار ومن التوقيع معù، فالأمير سلطان بن عبد العزيز، بطل الصفقة، يؤكد أنه أتمها »لتحقيق الرفاهية الاقتصادية للشعب الأميركي«!
ثم إنه يتجاوز التبرير إلى الاشادة ب»الموقف المشرّف« للرئيس الأميركي بيل كلينتون لأنه احتفظ للرئاسة بحق إرجاء التنفيذ ستة أشهر!
كأنما الموعد أهم من القرار، وأهم من القدس ذاتها،
وكأنما الكونغرس ليس إحدى أخطر مؤسسات الحكم (والمصالح) في الولايات المتحدة الأميركية،
في الوقت عينه، وبعدما تسلم كلينتون من سلطان عقد شراء الإحدى وستين طائرة ركاب أميركية، قصد الرئيس الأميركي مبنى وزارة خارجيته ليشارك في الاحتفال الاستثنائي الذي حوَّل بعض قاعاتها إلى »صالة أفراح«، وليتسلَّم من »منظمة النداء اليهودي الموحد«، وبحضور إسحق رابين، جائزة النبي إسحق »للخدمات التي قدمها لإسرائيل«،
وخلافù للأمير سلطان واهتمامه بالرفاهية الاقتصادية للشعب الأميركي (بالأموال العربية) فقد برَّر إسحق رابين منح كلينتون جائزة النبي إسحق بأنه »استحقها لأنه دعمنا وساعدنا على تعزيز قدراتنا العسكرية بما سمح لنا بفتح أبواب السلام«!!
* * *
لم يؤخذ القرار بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل بأصوات أولئك الأربعماية وسبعة وستين من أعضاء الكونغرس الأميركي وحدهم، »فالأصوات« العربية هي التي رجحت الكفة وجعلت اتخاذ القرار المستحيل ممكنù!
لا بد من إضافة أصوات الملكين الشريفين، صاحب المغرب وصاحب الأردن، وسلطان عُمان، وذلك القطري التائه، وبعض عرب شمالي أفريقيا، وهذا الأمير السعودي الخطير الذي يكاد يعدلهم جميعù.
فمع القدس الشريف ها هم يقدمون لإسرائيل رأس مكة المكرمة،
وها هم يأتمرون في عمان الهاشمية لرفع آخر حاجز قد يعترض خطة الهيمنة الإسرائيلية المطلقة على الأرض والثروات ومصادر الانتاج والأسواق العربية في ما بين المحيط والخليج.
لا إسرائيل تعرف ماذا تفعل بالجوائز العربية التي تتهاطل عليها،
ولا الولايات المتحدة الأميركية معنية بعد بالنقص في »عملية السلام«،
مليارات الدولارات مع القدس ولا تظاهرة عربية واحدة، حتى في القدس الشريف،
أما العواصم العربية فقد أُفرغت شوارعها من »المخرّبين« و»الإرهابيين« منذ زمن بعيد، ولم يعد يتحرّك في فضائها الفسيح إلا سيارات الشرطة وعيون المخبرين وسيوف النظام!
* * *
اللهم، إنا لا نسألك رد القضاء، بل اللطف فيه،
لم يعد المطلب توقيع العقاب على مَن يتبرّع بمعاداة أصدقائه العرب المطواعين، والحلفاء الصادقين حتى بالدم،
بل صار أقصى المطامح منع المكافأة عن العدو!
لم يعد المطلب »ضرب المصالح الأميركية« أو التهديد بضربها، أو سحب السفراء احتجاجù، أو حتى السماح بتعبيرات صوتية غاضبة أو مستنكرة،
لم يعد الطموح إلى قمة عربية تمنع الأذى، أو إلى مؤتمر استثنائي لوزراء الخارجية العرب ينتهي بعد مساومات مهينة ببيان فخم بمبناه مهين بمعناه،
صار أقصى الطموح أن تفرض العقوبات على المواطن العربي فرادى فلا تذهب مع القدس مكة، ولا يذهب مع الأرض الاقتصاد، ولا ندفع ثمن الاهانة المليارات،
أما الدماء التي ما تزال تسقي بنداها الزكي أرض جبل عامل في لبنان وبعض أنحاء فلسطين، فلها ا” ومجد الشهادة،
وربما سيكون لها المجد أنها خطّت السطر الأول في التاريخ الجديد للقدس الشريف ومكة المكرمة وكل أرض عربية!