حددت الولايات المتحدة الأميركية بلسان رئيسها وكبار معاونيه مسرح الجولة الثانية من حربها الكونية التي موّهت طبيعتها الإرهابية بأن أسمتها »الحرب ضد الإرهاب«، فإذا هي »إسرائيلية« بالكامل وبغير قناع أو تمويه.
فبعد سلسلة من المناورات والغارات الوهمية والإنذارات المدمرة للأعصاب لهذه أو تلك من الدول العربية شلت بعضها وجعلت بعضاً آخر يستسلم بغير قتال، دخلت أميركا الحرب ضد العرب جميعهم من الباب الإسرائيلي، فإذا »عدوها« الثاني بعد »أسامة بن لادن« وحكومة »طالبان« في أفغانستان، كل من حمل أو فكّر بحمل السلاح ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وما جاورها من الأرض العربية، وكل من سانده فساعده بسيفه أو بيده أو بلسانه أو بقلبه وهذا أضعف الإيمان… وهكذا تصدّر »حزب الله« قائمة المطلوبين!
لا يُسأل الوحش الجريح ولا يناقش قاهر الجبابرة. لا يسأل عن الأدلة أو البينات أو حتى القرائن، هو مَن يحدد »المتهم« و»التهمة«، هو من يحاكم ويدين وينفذ العقوبة، ولا مجال للاعتراض: من يقاتل إسرائيل إرهابي، والإرهابي مطلوب أميركياً حياً أو ميتاً، ومن حمى »الإرهابي« أو تستر عليه إرهابي فكيف بمن يساعده بالسلاح أو بالمال أو بالمعلومات الأمنية أو حتى بالدعوات الصالحات؟!
نحن نعيش التاريخ الضد، وليس نهاية التاريخ.
لا مكان للشعوب في الجغرافيا الأميركية الإسرائيلية الجديدة.
صار السلاح امتيازاً للعنصر الأرقى. هو علامة التفوق وأداة للهيمنة ممنوعة على الضعفاء والمساكين والمقهورين والمحتلة أرضهم وإرادتهم.
للسلاح هدف واحد هو تأكيد هيمنة الأقوى، وقهر المعترض على إرادة مصنِّعه ومالكه والمتحكّم بأسواقه. لا سلاح للضعفاء الذين يجب أن يبقوا ضعفاء لتتأكد سيطرة القوي وتثبت.
المقاومة من ذكريات الماضي وتعدد القوى العظمى. في ظل سيادة القوة الكونية العظمى المفردة والمطلقة تغدو المقاومة إرهابا وتحديا للقدر.
باخرة سلاح للفلسطينيين، المحاصرين بالموت الإسرائيلي؟!
هل أخطر من هذا التحدي وأدل على الطبيعة الإرهابية للفلسطينيين ومعهم »حزب الله« من هذا الخرق الخطير لتوازن القوى؟!
ولأن الجريمة خطيرة فقد تبرأ منها الجميع، وأدانوها واتهموا منظميها بالجنون المطلق!
في زمن مضى كانت مثل هذه التهمة شرفاً عظيماً لا يقدر عليه إلا صنّاع التاريخ، فتبعث مصر بالسلاح إلى الجزائر المجاهدة ضد الاستعمار الفرنسي، وإلى اليمن المجاهدة في جنوبها ضد الاحتلال البريطاني، والمجاهدة في شمالها للتحرر من كهف الإمامة الجاهلية، وتبعث سوريا بالسلاح إلى »الفدائيين« المجاهدين من أجل تحرير فلسطين، وإلى مقاومي الأسطول السادس في لبنان، وتبعث ليبيا بالسلاح إلى المجاهدين لتحرير هذا أو ذاك من الشعوب المقهورة بالطغاة المحليين المرتبطين بالأجنبي في بعض أقطار أفريقيا الخ..
وهي جريمة، لأنها باخرة واحدة لا بواخر متصلة تحمل السلاح إلى هؤلاء الذين يُقتلون ألف مرة في اليوم، تغتال بيوتهم في مخيمات لجوئهم، وتدمر مرافقهم البسيطة كمقار الشرطة والميناء الصغير ومطار الطائرة الواحدة.
هي جريمة لأن القرصنة الإسرائيلية صارت عملاً مشروعاً لا يعترض عليه أحد على طول سواحل البحر الأحمر (الذي كان ذات يوم بحراً عربياً)… بل صارت »بطولة« تستحق عليها تهنئة الرئيس الأميركي ومخابراته، ولا تجرؤ دولة عربية أو أفريقية أو أوروبية على إدانته، ولو باسم حقوق الملاحة الحرة في البحار الدولية!
وهي جريمة لأن الذين ما زالوا في الميدان يواجهون الاحتلال الإسرائيلي باتوا »أقلية«، بل أقلية الأقلية، مما يسهل »نبذها« والتنصل منها ومن مغامراتها الدموية الحمقاء.
أما أن يعلن رئيس حكومة إسرائيل، المنتخب ديموقراطياً(!!) أنه سيستمر في محاصرة رئيس السلطة الفلسطينية (المنتخب ديموقراطياً) والمعترف به من قبل معظم دول العالم، وسيواصل سجنهفي مكتبه في رام الله لسنوات إذا اقتضى الأمر فهذا عمل من أعمال السيادة الإسرائيلية، مثله مثل »القرصنة« لأسر باخرة السلاح في أعالي البحر الأحمر!
وبرغم التنازلات التي قدمها رئيس السلطة الفلسطينية وهي فادحة، وتكاد تمس جوهرية قضيته، أي الحقوق الدنيا للفلسطينيين في أرضهم، فإن الولايات المتحدة الأميركية لم تتشفع لفك الحصار عنه، أو لوقف المذبحة الإسرائيلية التي كادت تذهب بكل ما أقامته السلطة من منشآت، فضلاً عن ضحاياها من نساء وأطفال ورجال وشجر وبيوت وأكواخ صفيح!
بالمقابل فلا بد من محاسبة »حزب الله« بأثر رجعي على مقاومته الاحتلال الإسرائيلي بالسلاح، ولو داخل الأرض اللبنانية المحتلة…
وهكذا تتقاطع السيوف الأميركية والإسرائيلية على هذا الحزب السياسي الأوسع شعبية في لبنان، والأعظم رصيداً معنوياً في كل دنيا العرب (والمسلمين)، والذي »تعترف« به كل أوروبا، والذي ارتضت الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، بل وحتى إسرائيل، أن يكون »طرفاً« في »تفاهم نيسان« الذي أمكن التوصل إليه بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في نيسان 1996 وكانت ذروته »الديموقراطية« مجزرة قانا المعروفة.
باخرة السلاح تحقق الأغراض جميعاً: تضع إيران والثورة الإسلامية فيها و»حزب الله« وكل من عرف فلم يبلغ، وسهَّل فكتم المعلومات، في قفص الاتهام… ثم أنها تعيد الاعتبار إلى الجيش الإسرائيلي المحطم المعنويات في لبنان، والغارق في حمام الدم ضد الأطفال الفلسطينيين حتى أذنيه، وتعيد تلميع صورته الأسطورية السابقة بوصفه الجيش الذي لا يقهر، والذي يصل سيفه الطويل إلى حيث يشتبه بوجود مقاوم ولو كان في أقصى الأرض أو المحيطات.
لماذا لا تدخل أميركا الحرب ضد العرب طالما أن ربحها لا يكلفها طلقة رصاص واحدة، ولا تواجهها تظاهرة اعتراض واحدة، ولا ترد عليها دولهم الاثنتان والعشرون بمذكرة احتجاج واحدة؟!
… بل ان محطات التلفزة العربية، الرسمية منها والخاصة، الأرضية منها والفضائية، وكذلك الصحف، (ناهيك بالحكومات)، تعاملت مع الحرب الأميركية على الأمة بمجموعها، بمنتهى الحيدة والأمانة المهنية، فنقلت الأخبار بصياغتها الإسرائيلية تدليلاً على نزاهتها وبراءتها من شبهة التعصب!
هذا إذا ما أغضضنا الطرف خجلاً عمن استنكر أو شجب أو أدان، من بين العرب، »العمل الإرهابي« المتمثل في محاولة تهريب بعض السلاح إلى أخوتهم المحاصرين بالموت الإسرائيلي داخل فلسطين.
* * *
الجريمة أنها باخرة واحدة. لو قام الكل بواجبهم لاختلف التوصيف. لاختلف واقع الحال، ولاستعاد »الإرهابي« اسمه الإسرائيلي، ولاستعاد التاريخ سياقه الطبيعي بدل أن يقرر الخارجون من بلادهم وعليها نهايته.
لكننا نعيش في التاريخ الضد، لذا فالمسميات تعكس نقيض واقعها فيغدو الإسرائيلي ضحية الإرهاب والفلسطيني بطله، والأميركي محقق العدالة في العالم والشعب الأفغاني البائس هو من يهدد الكون بالفناء.
الجريمة أن المقاومين باتوا من القلة بحيث صاروا خارجين على… التاريخ!