استقر اسم “غزة” في الضمير الإنساني باعتباره رمزاً إضافيا للمأساة المفتوحة بعنوان فلسطين.
صارت “غزة” راية للصمود في وجه الوحشية الإسرائيلية.
يولد أطفال غزة في قلب النار الإسرائيلية، ويكبرون في ظلال غارات الطيران الحربي الإسرائيلي. يستشهدون قوافل قوافل، ومع ذلك يتكاثرون كأنما يخجلهم الغياب. يستشعرون نقصاً في وطنيتهم، في عروبتهم، في إنسانيتهم اذا هم غابوا.. لذلك يتزايد حضورهم ويتعاظم وجودهم وتشع عيونهم بألق الشهادة فتتلألأ الأرض بالنجيع،
أقوى من غارات الطيران الحربي الإسرائيلي، هم. أقوى من عسكر القوات الإسرائيلية الخاصة هم. أقوى من المدافع الإسرائيلية هم. تسقط البيوت مدمرة، فيخرجون من تحت الركام ليستأنفوا المسيرة: نحن أهل الأرض. نحن أبناؤها. نحن أصحابها. نحن رملها ونخيلها. نحن بحرها والمخيمات التي تؤوي من هجرته الاجتياحات الإسرائيلية من الأرض الأم ـ فلسطين.
هنا في غزة يتكاثف وجود فلسطين كلها. لقد جاءت الأكثرية الساحقة من المقيمين هنا من سائر أنحاء الوطن الفلسطيني الذي اجتاحته قوات الاحتلال الإسرائيلي فصارت غزة ملخصاً لفلسطين. ستجد في المخيمات هنا من جاء من الساحل ومن الجليل، من حيفا ويافا واسدود كما من ضواحي الناصرة والخليل، من الجليل الأعلى كما من ضواحي القدس.
غزة مختصر الجرح المفتوح بحجم فلسطين جميعاً.
كانت غزة هاشم، جد العرب، الذي توقف في مكان ما منها وهو في طريقه إلى المحروسة، ربما، أو الى بعض الساحل الفلسطيني، مدينة صغيرة عند آخر فلسطين على تخوم مصر.
دمر الاحتلال الإسرائيلي غزة المدينة المنبسطة كراحة الكف. لا جبال فيها تحمي الثوار ولا غابات. أرضها الرملية مفتوحة الأفق عبر البحر الأبيض المتوسط وساحلها جميل يجيء متلهفا إلى الشاطئ فيكتب على الرمل حكايات حب مخبوءة فيه، ثم يتزود بدواوين غزل ليحملها إلى الذين يجلسون متشوقين في انتظار عودته، على امتداد الشاطئ الذاهب إلى المحروسة جنوباً او إلى بلاد الشام شمالاً.
لكن الوحش الإسرائيلي يكره الحب والمحبين. يكره حكايات العشق ترويها العاشقات بدموع العين. يكره الأطفال الذين يتعلمون السباحة في الرمل قبل أن يقفزوا إلى البحر لينتصروا على الخوف. يكره المدارس والتلامذة. يكره الأفران والخبز. يكره المساجد والكنائس والمصلين. يكره من يعبد الله ويمارس إيمانه عبر حب الوطن والتمسك بحقه في أرضه جميعا، بمدنها وقراها ومخيمات اللجوء القسري وبحرها الذي يشكل بداية الدنيا لا نهايتها.
.. ولقد بات مألوفاً أن يثور غضب الوحش الإسرائيلي كلما انتبه إلى أن غزة تتعاظم بناء فتقوم فيها الأبراج. وبينما العائدون من رحلات التعب في الخليج وأنحاء أخرى من العالم بقروش يبنون فيها بيوتا نظيفة على أنقاض خيام اللجوء.
…أو كلما انتبه إلى أن الشوارع قد اتسعت وقامت عند جانبها الأسواق التجارية، ونبتت في أنحائها المدارس، تحت رعاية وكالة الغوث، والجامعات التي تخرج كل سنة افواجاً من الأطباء والمهندسين والمتخصصين في علوم الكومبيوتر والاتصالات التي يجيئها التلامذة والطلاب من كل فج عميق لينهلوا منها العلم وأسباب المعرفة.
الوحش الإسرائيلي يكره الأطفال. انه يراهم مشاريع مقاتلين، أو “مجاهدين” تلتمع عيونهم بالتصميم على العودة ـ ولو بالسلاح ـ إلى أرضهم التي احتلها والى بيوتهم التي “منحها” من لا يملك لمن لا يستحق من وحوش المستقدمين من أربع رياح الأرض، ليستوطنوا غصباً ارض الأنبياء، فلسطين.
عشر حروب… وغزة تنهض بعد كل حرب، أعظم اتساعاً، وقد رممت بيوتها ومساجدها وكنائسها ومدارسها المهدمة، واستأنف أهلها حياتهم، وهم يعرفون أنهم سيتعرضون لحرب إسرائيلية جديدة. لكن إرادة الحياة تبقى أعظم من همجية العدو الإسرائيلي.
ومع نهاية الحرب الإسرائيلية على غزة، في العام 2014، التمعت في أذهان بعض المبدعين والمشغولين بحقوق الإنسان، وأولها حقه في الحياة بأمان في وطنه، ورافضي الحروب الاستيطانية المتكررة، على هذه الجموع من اللاجئين أصلا من مختلف أنحاء فلسطين، فكرة أن يخلدوا تضحيات أهالي غزة، فكان أن عمدوا إلى ملء حروف اللغة بصور من “انجازات” العدو الإسرائيلي في آخر حروبه على غزة.
وهكذا جعلوا من حروف اللغة الانكليزية لوحات: فكل حرف يستبطن صورة من صور التدمير الوحشي والقتل الجماعي الذي حصد آلاف الأطفال والنساء والرجال والبيوت في غزة المحاصرة بالنار.
وهكذا أنتج هؤلاء المبدعون “روزنامة” مبتكرة، إذ أنطقوا الحروف عبر الصور التي تطل عبر تلافيفها بعض فصول المأساة الفلسطينية في غزة التي ما إن تخرج مجرحة الوجه والقلب والجنبات من حرب إسرائيلية، حتى تتعرض مجدداً إلى اجتياح بالنار الإسرائيلية، تقتل البشر والحجر وتدمر أسباب العمران، وتطارد العصافير والفراشات والنحل وصولاً إلى الأسماك في خليج الصيادين الممنوعين من الصيد في بحرهم.
إن مأساة غزة تملأ الحروف جميعاً، الكلمات جميعاً، الصور جميعاً، الأخيلة جميعاً. إنها جريمة ضد الإنسانية مفتوحة، ما ان ينتهي فصل من فصولها حتى تضيف الوحشية الإسرائيلية “إنجازات” جديدة، كأن تغير الطائرات الحربية على فتية صغار هربوا من النار الإسرائيلية إلى الشاطئ يحاولون أن يبتردوا في مياه بحرهم، فتساقطت عليهم قذائف القتل الإسرائيلية، غضب البحر فتخضب بالأحمر القاني والابتسامات المغتالة.
ولقد قصد المبدعون الذين روعتهم المأساة المفتوحة في غزة ان يوصلوا صور مذابحها والضحايا، بشراً وعمرانا، إلى الناس في مختلف رياح الأرض، وهكذا حملوا الألفباء الإنكليزية مشاهد تلخص الإنجاز الإسرائيلي، وجعلوها على شكل روزنامة أو مفكرة، فكل حرف يختزن صورة لجراح البشر في غزة، أطفالاً ونساء ورجالاً، بيوتا وأكواخاً وأبراجاً، متاجر وجامعات ومدارس، مساجد وكنائس، ومستشفيات اكتظت جنباتها وممراتها بعد الغرف بضحايا قصف الإبادة،
أمهات مفجوعات وزوجات ترملن وأولاداً فرضت عليهم الهمجية الإسرائيلية ان ينشأوا أيتاما… وشيوخاً عجزهم العمر والقهر عن إنقاذ أهلهم.
…جاء هؤلاء المبدعون إلى “السفير” بفكرتهم البكر ومشروع تحويلها إلى “روزنامة” تحمل إلى الدنيا البعيدة، غير العربية، صور هذه المأساة الإنسانية المفتوحة، بحيث يحتوي كل حرف مقطعا من صورة مع شرح موجز لموقعها وتفاصيلها.
القصد أن تدخل مأساة غزة كضحية لهمجية الاحتلال الإسرائيلي كل بيت او مكتب، حيث يمكن إيصال هذه “الروزنامة” التي تكاد تكون كشف حساب او ملخصاً يوجز ـ بالصورة والكلمات الدالة على مكانها والزمان ـ مأساة الشعب الفلسطيني في غزة في ظل الحرب الإسرائيلية المفتوحة.
ولقد تواصلنا مع وزير الثقافة روني عريجي من أجل إطلاق هذه الحملة من قصر اليونسكو في بيروت… وكان تجاوبه حاراً، كما قدرنا، خصوصاً بعد الاستماع إلى شرح تفصيلي لمخاض الفكرة التي عمل على تجسيدها مجموعة من الشباب اللبناني المبدع.
الهدف إيصال صور المذبحة الإسرائيلية في غزة إلى العالم، مرفقة بالشروح الدالة على المكان والزمان والأهداف التي من لحم ودم، ومن عمران تتجاوز فيه المدرسة التي ترعاها الأمم المتحدة والمستوصف الذي تبرعت به بعض الهيئات الدولية والأبراج التي ارتفعت في قلب غزة عبر افتراض ان الحروب السبع السابقة قد أشبعت الحقد الإسرائيلي وبات بإمكان أهل غزة أن يعيشوا حياتهم، كما كل خلق الله في أي مكان: يعملون لبناء بيوتهم، ويرسلون أبناءهم إلى المدارس، ويذهب من يريد الصلاة إلى مسجده أو كنيسته، ويقصد التلامذة الاكفاء واحدة من الجامعات القائمة في هذا الشريط الساحلي الذي يشترك في تدمير العمران فيه الطيران الإسرائيلي مع المدافع الإسرائيلية مع القوات الخاصة الإسرائيلية التي تدخل تحت غطاء القصف لتنسف البيوت بذريعة مكافحة الإرهاب.
ولسوف يتلاقى ظهر اليوم في قصر اليونسكو في بيروت المهتمون والمعنيون والمواكبون لتداعيات الجرح الفلسطيني المفتوح بعنوان غزة، الصامدة بعد حروب إسرائيلية عدة، آخرها ـ حتى هذه اللحظة ـ تلك التي، اجتاحت فيها إسرائيل بالقصف جواً وبراً وبحرا، غزة بمختلف جنباتها وقد شملت الأحياء جميعاً: الشجاعية، التفاح، النصر، الزيتون، الدرج، الشيخ رضوان، تل الهوى، الشيخ لجين، خزاعة… كذلك فقد شملت المخيمات جميعاً: جباليا، الشاطئ، النصيرات، وأيضا شملت مدن القطاع: غزة، رفح، خان يونس، دير البلح وجباليا فدمرت العمران فيها وقتلت الأطفال والنساء والرجال، ثم أجبرها الصمود على إيقاف المذبحة بعد…
وهكذا استوعبت المذبحة حروف اللغة جميعاً، وصار ممكنا الحديث عن “لغة غزة”.
ان الهدف أن تدخل جراح غزة كل بيت، كل مكتب، كل ضمير، كل قلب، في الخارج البعيد، فتصحح الصورة التي تصدرها إسرائيل، دولة يهود العالم، كما يريدها السفاح نتنياهو، إلى الدنيا، فتتبدى وكأنها ـ وهي الدولة الدينية ـ واحة الديموقراطية في هذه المنطقة من العالم.
وكلنا يقين أن جمع المدعوين الذي سوف يشمل الدبلوماسيين الأجانب والعرب، ومنظمات الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان، والعاملين في مجال الاعلام من الزملاء في الصحف العربية والأجنبية ووكالات الأنباء الدولية، ولمن يسمح له وقته من المتابعين والمعنيين من أهل السياسة بقضايا المصير، سوف يتابع عملاً فنياً ممتازاً يجسد مأساة إنسانية غير مسبوقة في أنها تظل مفتوحة تنزف العدالة الدولية وحقوق الإنسان.