من واشنطن التي تعهدت للعرب، والتي ينتظر منها العرب دور الراعي والضامن والمحرِّك لعملية »السلام«، أطل »الجنرال« إيهود باراك بعرض يفترض أن المعنيين به لا يملكون القدرة على رفضه، وأن »الآخرين«، أي غير العرب، المتعبين من »أزمة الشرق الأوسط« بتداعياتها المتوالدة باستمرار والمستعصية على أي ضبط، سيرحبون به أجمل ترحيب: الحل الشامل!
ان بطل كل الحروب يعرض الآن، ومن قلب البيت الأبيض، السلام الفوري (!!) على كل أعدائه السابقين، وبهدف وضع الخاتمة لصراع الإرادات والتاريخ والجغرافيا فوق الأرض المقدسة!
إنها اللحظة المناسبة تماما، في تقدير باراك، بكل المعايير والمقاييس، وعلى مختلف المستويات، لكي يبدأ قائد إسرائيل الواحدة الموحدة، الهجوم الاستراتيجي الشامل، معزَّزا ومؤيَّدا ومباركا من »الحليف الأكبر« الرئيس الأميركي بيل كلينتون، تحت لافتة »الحل الشامل« الذي كان مطلبا عربيا دائما، ثم تهاوى حين تفرق العرب وتبعثروا في مسارات، يستعجل واحدهم حله الخاص غير مهتم بأن يكون على حساب »أشقائه«، وبأن يكون بالتالي أقل مما يجوز وأبأس مما كان معروضا عليه قبل الافتراق.
أول قرار للجنرال: الخروج من الموقع الدفاعي الضعيف الذي انتهت إليه إسرائيل، نتيجة للسياسة الغبية لبنيامين نتنياهو الذي أفقد إسرائيل بغطرسته وقصر نظره وتهوره أصدقاءها وأبعد عنها حلفاءها وطرد من جاءه من العرب يطلب بدلاً من السلام السلامة..
والتوقيت في مثل أهمية القرار، وباراك يرى أنه قد وصل في موعده تماما:
1 العرب مفككون، مبعثرون، يكيد بعضهم لبعض، ويخافون من مجرد التلاقي، ولو في قمة للتشاور، أو في قمم مصغرة للتنسيق، ضائعون ومضيّعون سياسيا، متعبون بل مرهقون إلى حدود الإفلاس أو العجز المتفاقم والرزوح تحت أثقال الديون اقتصاديا، ضعفاء الى أقصى حد عسكريا… من يملك أكداسا من السلاح الحديث لا يملك القدرة على استخدامه، ومن يملك شجاعة القرار يكاد يكون بلا سلاح، وهكذا يتوفر مشهد خرافي: سلاح ولا جيوش في أقطار هي بالفعل محتلة ومصادرة الإرادة، وجيوش ولا سلاح حيث تتوفر الارادة.. والقضية!
2 يتصل بذلك أن فلسطين قد غيّبت تماما وكادت تُنسى كقضية قومية، وكحقوق وطنية لشعب عربي، وكصراع تاريخي بين »قوميتين« أو »مشروعين« متناقضين بالضرورة، وصارت مجرد مشكلة أمنية داخلية إسرائيلية، تُحل في إطار »حقوق الأقلية القومية« في دولة ذات أكثرية مطلقة من »شعب الله المختار«، وتقتصر علاقتها بالعالم الخارجي على تبرعات الدول المانحة، حتى لا يتحمل الإسرائيليون عبء هؤلاء الذين لم يستطيعوا طردهم هم أيضا من أرضهم الأصلية.
3 ويتصل بذلك أيضا أنه مع تغييب فلسطين كقضية قومية وكرباط مقدس بين العرب، تتقزم سائر موضوعات الصراع متحولة الى مجرد نزاعات على الحدود بين إسرائيل وبعض جيرانها المكابرين وبالتحديد: سوريا ولبنان.
4 يتصل بذلك أيضا وأيضا أن الأمم المتحدة، و»حكومتها« ممثلة بمجلس الأمن، والتي كانت المرجعية القانونية والسياسية لحقوق الشعب الفلسطيني، وللصراع التاريخي، معطلة تماما، ليس لقراراتها أي قيمة، أما مجلس الأمن فلم يعد يجتمع إلا بإذن أميركي ولإسباغ »الشرعية الدولية« على أي تدخل عسكري أميركي في مشارق الأرض (العراق) ومغاربها (يوغوسلافيا).
.. ناهيك بأن السلطة الفلسطينية قد تخلت عن هذه المرجعية وعطلتها تماما، ولا تتذكرها الآن إلا، للتهديد الأجوف بالخروج مما لا تستطيع الخروج منه من التزامات!
5 روسيا مفلسة، مجرحة في كرامتها، تتناهبها المافيات وقروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والسماسرة، وأعجز من أن تدافع عن »هيبتها« ومن أن تحفظ ما تبقى من دورها القديم »كدولة عظمى«.. وخصوصا أن كل ما فيها، بدءا بالقرار السياسي وانتهاء بالمصانع والدبابات والشوارع معروض للبيع.
6 أوروبا وقد خرجت من الممانعة والاعتراضات المتعبة الى الاستسلام لقيادتها الأميركية الجديدة، والتحقت بها اقتصاديا وبالتالي سياسيا (العولمة) وعسكريا (حلف شمالي الأطلسي)… وهذا درس يوغوسلافيا أوضح من أن يحتاج إلى تفسير.
7 أما الصين فغير معنية بما يجري خارجها، تهتم فقط بأن تلحق، ساحبة نفسها من الدور السياسي الخارجي لتبني »داخلا قويا« قادرا على المنافسة غدا.
8 وأما دول عدم الانحياز فقد انتهت الى مجموعة من الشعوب التعيسة والدكتاتوريات والأنظمة التابعة، يطاردها الجوع والفقر والمنازعات القبلية والإثنية والدينية فيأخذها الى حروب الحدود أو الحروب الأهلية، وتلغيها حتى كأصوات، وخصوصا أن الأمم المتحدة لم تعد »مرجعية« ولم يعد للصوت أي تأثير فيها.
9 يبقى الموقف الأميركي عموما، وموقف بيل كلينتون على وجه الخصوص، الذي يستعجل حلاً يدخله التاريخ ويدخل نائبه آل غور البيت الأبيض، ويدخل زوجته الكونغرس، بغير أن يفقد »أصدقاءه« العرب، ودور »راعي السلام«.
وواضح ان إيهود باراك يرى في نفسه، وفي موقعه، الأهلية لأن »يبيع« الرئيس الأميركي الحليف، كل »ألعاب الأطفال« هذه.. وخصوصا ان المقابل الذي يطلبه والذي يبدو انه قد ناله هو اسقاط الحدود بين ما هو أميركي وما هو إسرائيلي.. فالارتقاء بالعلاقات الثنائية الى مثل المستوى الذي تشير اليه الكلمات والبيانات، يلغي المسافة الفاصلة بين واشنطن وتل ابيب والتي كان يقف او يحتمي فيها العرب!
لكل هذا، وعوامل أخرى يمكن استنتاجها، باشر ايهود باراك هجومه الاستراتيجي تحت لافتة »الحل الشامل«، ومقدمته: تعزيز القدرات العسكرية الإسرائيلية (وهي متفوقة اصلا على مجموع القدرات العربية) بحيث يكون جيش إسرائيل هو جيش السلام.. الإسرائيلي!
لكي تستطيع فرض »السلام« يجب ان تتمتع بالتفوق المطلق، اليوم وغدا ودائما، بحيث يغنيك عن استخدام القوة!
ولكي يبقى »السلام« المفروض ويدوم، كأمر واقع، فلا بد من حمايته بالقوة المطلقة التي تمنع أي نقض له وأي خروج عليه.
المدخل الى »الحل الشامل«، او »السلام الإسرائيلي«: جيش قادر، في الحال وفي الاستقبال، على قهر كل العرب مجتمعين (إذا ما اجتمعوا)..« بل منعهم من مجرد التفكير بالعودة الى ميادين القتال، ولو كخيار أخير واجباري، والاكتفاء بأن تمن عليهم إسرائيل بأن يعيشوا تخلفهم وانكسارهم وافلاسهم… بسلام!
.. وبين ضمانات »الحل الشامل« اقتصاد منيع، بوسائل انتاج عصرية وبمعدلات نمو عالية، وبقدرة تنافسية ممتازة، بحيث يستطيع اكتساح هذا العالم غير الصناعي والمحكوم بالتخلف، صناعيا وزراعيا وسياحيا وفي مجال الخدمات المالية الخ..
وبين شروط »الحل الشامل« ان تكون إسرائيل »أميركا مصغرة« في منطقة نفوذها الخاص، أي الشرق الأوسط، لها التفوق المطلق عسكريا واقتصاديا، ولها دعم سياسي مفتوح يجعل منها قيادة المنطقة، ومن هذا الموقع »تتحالف« مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ليس كقاعدة أمامية، وليس »كمخلب قط« كما تصورها العرب ذات يوم، بل كشريك استراتيجي كامل.
وباراك يتقدم بعرضه غير القابل للرفض من »عالم« مستعد لقبوله!
فمع تغييب طبيعة الصراع التاريخي، ممثلا بفلسطين القضية والشعب والحقوق الثابتة في الأرض وفي العودة اليها، لا تتبقى سوى مجموعة من الاشكالات والمنازعات والخلافات الحدودية لا غير… وما أهمية بضعة كيلومترات من الأرض في جنوبي لبنان، او بضعة تلال وسفوح في جنوبي سوريا ممثلة بالجولان، إذا كان الهدف الهيمنة على المنطقة برمتها من المحيط الى الخليج، بل الى اقصى ما يطاله السيف او النفوذ الإسرائيلي في اقاصي آسيا وعلى امتداد افريقيا؟!
انها الحرب الجديدة، الاقسى والأمر والاصعب من كل ما سبقها، لأن مسرحها معد بدقة، ولأن توقيتها مناسب تماما لمن باشر هجومه الشامل تحت رايات »السلام« الموعود.
وبين عناوين هذه الحرب صفقة الطائرات الخمسين، والحوامات القلاع الطائرة، وزيادة المساعدات العسكرية، لضمان التفوق الأبدي لإسرائيل جنرال السلام.
فلنستعد لأن نسمع من أولبرايت غدا ما لا يمكننا قبوله، وما قد يكون مستحيلا رفضه.
طلال سلمان