طلال سلمان

جمهورية محميات مذهبية و”النق”المنظم

المشكلة مع الرئيس رفيق الحريري أنه يفكّر ويعمل لمشروع »دولته« بينما اللبنانيون يفتقدون أكثر فأكثر وجود »دولتهم«،
والمشكلة مع الرئيس الياس الهراوي أنه مشغول بهمّ التمديد أو التجديد ولاية ثانية في »رئاسة الجمهورية« في حين أن اللبنانيين يشغلهم ويقلقهم هذا التلاشي المنهجي »لجمهوريتهم«،
والمشكلة مع الرئيس نبيه بري أنه مأخوذ بالحرص على النجاح في »إدارة مجلس النواب«، بينما اللبنانيون فقدوا الأمل في أن يكون هذا »المجلس النيابي« هو مصدر الخلاص أو القيِّم على تجربة إعادة بناء »الجمهورية الثانية« بما يرسي دعائم السلم الأهلي وأبرزها الديموقراطية وحقوق الإنسان.
والمشكلة مع القيادات السياسية الرصينة وذات السمعة الطيبة مثل الرئيس سليم الحص أنها تمارس تطهرù مبالغù فيه فتمتنع عن المشاركة في »المنهبة« لكنها لا تملك أو لا تقدر أو لا تريد أن تقاتل لوقف ما يجري، تارة بذريعة التخوّف من الآثار السلبية جهويù، وطورù بذريعة تحاشي الصدام مع المذهبية المستثارة!
أما المشكلة مع القيادات السياسية ذات القواعد الشعبية، تاريخيù، باعتبارهم أبناء بيوتات أو دُور زعامة، كعمر كرامي ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية وغيرهم، فهي أنهم قد وقعوا بالفعل أسرى الجهوية والمذهبية معù، فحوصروا جغرافيù وطائفيù ولم تعد مواقفهم تُقبل ولو في المناقشة بوصفها نماذج لطرح وطني عام، بغض النظر عن مدى الصح والخطأ فيه، ومقدار براءته من الغرض أو تعبيره عن المصلحة الشخصية، أو في أحسن الأحوال مصلحة الجهة أو الطائفة أو المذهب، المحققة بها أو المتوخاة منها!
لم يعد في لبنان »مرجعية وطنية«،
ولم يعد ثمة »قائد« أو »قيادة وطنية« لها حضورها المؤثر، ولصوتها أو طرحها السياسي أو برنامجها الدوي والصدى في مختلف أنحاء هذا البلد الصغير.
صار لبنان مجموعة من »الدوقيات« أو »المحميات« التي ترفع رايات سياسية مموّهة لتخفي هويتها الطائفية أو المذهبية، ولكنها لا تنكر أبدù تركيزها على الشأن الجهوي، بمعزل عما يصيب سائر أنحاء البلاد، وتحت شعار جذاب هو: الإنماء المتوازن!
وفي ظل افتقاد الإطار الوطني الجامع،
وفي ظل غياب الدولة كناظم وضامن للعقد الاجتماعي بين اللبنانيين، كمواطنين فيها،
وفي ظل التعذر الأبدي لإمكان التقدم خطوة واحدة على طريق توحيد المدرسة أو المناهج المدرسية، أقله، والكتاب المدرسي أو التاريخ والتنشئة الوطنية، أقله،
وفي ظل غياب الأحزاب السياسية ذات البرامج التوحيدية، والناجحة في استقطاب جمهور لبناني عريض (وليس نخبويù) مؤهل لتحطيم الحواجز الطائفية والمذهبية والجهوية،
في ظل ذلك كله فإن كل ما يجري يعجّل في تلاشي »الجمهورية« وفي اندثار »المواطن«، ويصبح بين النكات السمجة الحديث عن »المؤسسات« وعن الديموقراطية وعن حقوق الإنسان.
فالمؤسسات الوحيدة القائمة في لبنان هي التي ترتكز إلى إقطاع ديني أو سياسي أو مالي وسواء أكان موروثù أم مكتسبù، شرعيù ومشروعù، أم محققù بقوة السلاح أو باستغلال النفوذ أو بالنهب المنظّم، أم بهذه الوسائل النظيفة مجتمعة!
* * *
في لقاء ذي طابع اجتماعي، روى وزير من المستجدين في لعبة الحكم وممَّن ما تزال عالقة به بعض مثاليات أيام النضال ضد »النظام الطائفي« وضد »الطغمة المالية« وضد »الدولة المزرعة«، واقعة مفزعة… قال:
»اضطرتني واجباتي المهنية أن أحضر في يوم واحد حفلي تخرّج، لمناسبة نهاية السنة المدرسية، في مؤسستين تعليميتين خاصتين… الأولى تتبع لبعض الرهبنات المسيحية، والثانية لبعض الجمعيات الإسلامية.
»خلال مدى زمني قصير لا يتعدى الساعة وفي مكانين من المدينة الواحدة لا تتعدى المسافة بينهما ثلاثة كيلومترات، سمعت ما أرعبني وكاد يقطع رجائي بإمكان إعادة توحيد اللبنانيين، فكيف ببناء دولتهم الواحدة.
»كانوا مختلفين، هنا وهناك، في كل شيء… لا النشيد هو النشيد، ولا اللغة هي اللغة، ولكل منهما توجه معاكس للآخر تمامù، بحيث أنهما لا يمكن أن يلتقيا إلا في خضم حرب أهلية جديدة.
»بصراحة أقول لكم، إن الانقسام يتعمّق يوميù، وإن اللبنانيين يتباعدون ويتباغضون، والدولة أضعف وأعجز من أن تفعل شيئù غير »رعاية« هذا الانقسام ومداراته بحيث تغدو أرخبيلاً من الدويلات الطائفية والمذهبية تحت طربوش واحد، تحميه حتى إشعار آخر الظروف الدولية والبندقية السورية معززة ببندقية الجيش..، لكن أيù منا لا يستطيع الاطمئنان إلى المستقبل وما يمكن أن يحدث إذا طار هذا الطربوش أو أزاحته قوة التحوّلات والتطورات المرتقبة في المنطقة..«.
* * *
مَن يوحِّد اللبنانيين؟!
إن الشكوى من تزايد الضرائب والرسوم والسياسة الاقتصادية الخاطئة، قد توحّدهم في التذمر، لكنها لا توحّدهم في الحركة،
والتشكي من فساد الإدارة والعجز عن إصلاحها،
والتذمر من عمليات النهب المنظَّم لموارد البلاد باسم إعادة الإعمار واستكمال البنية التحتية ألخ،
والصراخ من ارتفاع كلفة الحياة اليومية، من السكن إلى الطب والاستشفاء، ومن التعليم إلى النقل، ومن الكهرباء إلى الهاتف ألخ،
والتندّر بالوقائع العجيبة في جلسات الحكومة المنسجمة داخل مؤسسة مجلس الوزراء، وكيف تمرّر المشاريع والقرارات ولحساب مَن،
و»النّق« من أن مجلس النواب لا يمارس أو هو لا يمكَّن من ممارسة دوره الطبيعي كمؤسسة رقابة ومن ثم محاسبة لأعمال الحكومة، ولصالح الشعب وباسمه دائمù،
إن كل ذلك لا يفيد في شيء، ولن يعجّل في التبديل أو التغيير أو إصلاح الحال، وهذا أضعف الإيمان.
الأزمة موجودة، وخطيرة، اقتصاديù واجتماعيù، ولكنها أكثر خطورة في طبيعتها السياسية،
لكن الفراغ، بالمقابل، قاتل،
فليس في لبنان قوة أو كتلة أو تيار مؤهل لقيادة الناس من أجل إسقاط أسباب الشكوى والتذمر، وفرض التعديل أو التغيير على قاعدة برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي عصري في مفهومه للدولة، وتوحيدي في منطلقه كما في مناهجه التطبيقية.
و»النّق« ليس أساسù صالحù للثورة، ولكنه قد يصلح غذاءً مناسبù للوحش الطائفي والمذهبي، الذي يصول الآن في طول البلاد وعرضها، ويلقى الرعاية من الأطراف والقوى جميعù، بينما الدولة تقوم بدور شاهد الزور فتوفد »ممثليها« إلى المناسبات جميعù، حسب الأصول… الطائفية والمذهبية!
المشكلة ليست في الضرائب، ولا حتى في ضآلة المرتبات والدخول،
المشكلة في العقل السياسي القاصر، وفي الغرض الشخصي الطاغي، وفي انعدام الرؤية وقصر النفس.
وما يجري هو خطة عمل نموذجية لإلغاء دولة وتهديمها، وليس لبناء أو إعادة بناء دولة من تحت ركام الحرب الأهلية.
ولكن السؤال الخطير هو: مَن يناقش مَن؟!
مَن يفكّر؟! مَن يخطط؟! مَن يصحِّح الخطأ؟!
ثم: مَن يحاسب مَن؟!
وفي غياب المساءلة والحساب تواصل المؤسسات الطائفية والمذهبية عملها الدؤوب لوراثة الجميع، أصحاب فخامة وأصحاب دولة و»أصحاب معالي« وأصحاب سعادة…
المواطن هو وحده اليتيم،
أما الوطن فأبعد من الحلم،
وأما الدولة فليست أكثر من نكتة سوداء في هذا العصر الذهبي السمات!

Exit mobile version