قديماً قيل: مَن يزرع الريح يحصد العاصفة..
اليوم يمكن أن يقال، وبراحة ضمير: لا يحق لمن عمل بكل جهده وإمكاناته المادية ونفوذه المعنوي، وعلى مدار الساعة، لتحويل العمل السياسي إلى غابة تصطرع فيها غيلان العصبيات الطائفية والمذهبية ـ وبالسلاح أحياناً ـ أن يقف فجأة ليعترض على من يبدل موقفه، وبالتالي تحالفاته، مع استشعاره تبدلاً في اتجاه الريح، مبرراً تغيير موقعه بذرائع طائفية أو مذهبية.
بتحديد أدق: الكل شركاء في جريمة إلغاء الحياة السياسية في لبنان، والعودة بهذا «الشعب» الذي يحاول يومياً تأكيد وحدته، إلى الخلف خمسين عاماً، دفعة واحدة، لكي يبرروا اعتمادهم قانون 1960 في انتخابات العام 2009، مع وعيهم الكامل بأن تلك هي أقصر طريق «لتشريع» إعادة إنتاج مناخات الحرب الأهلية… فمثل هذه الانتخابات ستلد مثل هذا المجلس الذي يكاد يكون تجسيماً للاصطفاف الطائفي والمذهبي. فكيف، إذن، يطالبون مجلس الفيدراليات الطائفية والمذهبية بأن ينتج «حكومة وحدة وطنية»، ستكون غريبة عن «أهلها»، تماماً كمن يطالب القرد بأن يلد غزالاً أو الدب بأن يلد سرباً من البلابل!
وبالاستطراد: فإن العودة إلى قانون الستين كانت أشبه بمحاولة لإدخال «الجمهورية اللبنانية» ـ مجدداً ـ في قالب «المتصرفية» حيث انتزع قناصل «الدول» لأنفسهم الحق في أن يقرروا للبنانيين، وبحكم الوصاية على طوائفهم، ما يرونه مناسباً لإدامة انشقاقهم، وبالتالي لاستمرار تحكّمهم بموقع لبنان على خريطة الصراع الدولي المفتوح ـ منذ دهور ـ على هذه المنطقة الغنية بمواردها والمهمة بموقعها الاستراتيجي الحاكم.
ومن أسف، لم يعد مما يستثير حمية اللبنانيين أو يستفز كرامتهم الوطنية أن تمتلئ ساعات البرامج السياسية في الفضائيات المحلية والعربية وكذلك صفحات الصحف المحلية والعربية، بتصريحات الموفدين أو السفراء الأجانب والعرب حول أدق التفاصيل المتصلة بعائلاتهم الروحية (وهو التعبير المهذب للانشقاقات الطائفية والمذهبية)، أو بانشطار المجلس النيابي بين «أكثرية» طوائفية ليست مطلقة وبين «أقلية» لها من الحجم التمثيلي الطوائفي ما يفرض شراكتها في الحكومة العتيدة…
بالمقابل لم يعد أي من المخبرين العاملين في المجال الإعلامي يتورع عن طرح أسئلة مهينة ـ بالمعنى الوطني ـ على ضيوف أجانب أو عرب تتصل بداخل الداخل من مسائلنا الوطنية، موفرين لهؤلاء «الضيوف» الفرصة لأن يكرزوا علينا نصائحهم بضرورة التوحد والتوافق والالتفاف حول «القيادة الشرعية» والاحتكام إلى «المؤسسات الديموقراطية» وفي طليعتها المجلس النيابي، ثم التحذير من مخاطر الانقسام (وهو استثمارهم الأهم).. مع التنبيه إلى حساسية الوضع في لبنان وتأثير أسلوب معالجته على تطورات الأحداث في هذه المنطقة التي تمشي إلى جهنم بأقدامها، نتيجة الرعاية الكريمة للاحتلال الأميركي للعراق الذي أعطى الاحتلال الإسرائيلي الفرصة لكي يلغي فلسطين ـ عملياً ـ عبر مستعمراته الاستيطانية التي استهلكت ما كان تبقى من أرضها، بينما المؤتمر السادس لحركة فتح «يناقش التطورات» ثم يعطي التفويض المطلق «للسلطة» التي استولدت قيصرياً في أوسلو، بأن تتابع مسيرتها الظافرة نحو… الدولة الفلسطينية!
بمعنى ما، يكاد السادة «القناصل» مع رهط الموفدين العرب منهم والأجانب، يحملون لبنان المسؤولية عن مناخ الفتنة الطائفية التي استولدها الاحتلال الأميركي للعراق واندفع يغذيها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، بالتواطؤ مع بعض الأنظمة العربية التي رأت في الفتنة استثماراً سياسياً مجزياً يمكن توظيفه في تحسين موقعها لدى الإدارة الأميركية، لتوطيد أركان النظام، وتسهيل عملية انتقال السلطة بالتوريث أو بإلغاء الطامعين من المعارضين الكفرة أو المتعصبين، وكلاهما حليف الآخر..
ومع أن السادة «القناصل» قد باركوا للبنانيين، منذ شهر أو يزيد، بحكومة الوحدة الوطنية التي سوف يستولدها هذا المجلس المحكوم بتوازناته الطائفية والمذهبية الدقيقة، فإن هذه الحكومة تستعصي على المعادلات الرياضية التي استحدثت لاستيلادها، والتي استهلكت جداول متعددة في محاولة للعثور على نقطة التوازن الضائعة…
كان يكفي أن يقرر طرف طائفي أو مذهبي واحد في المعادلة، لا يهم عديد نوابه، أن يبدل موقعه حتى تختل التوازنات جميعاً وتتأكد المواصفات المدمرة للديموقراطية (وبالتالي للمجلس النيابي) في قانون الانتخابات للعام 1960.
فلعبة الطوائف والمذاهب تخدم «الدول» على حساب الوطن،
و«الدول» لا دين لها، وتحالفاتها تحكمها مصالحها، ولا ترمش جفون أي «قنصل» إذا ما استدعت مصالح دولته أن تنقل تحالفها من طائفة إلى طائفة أخرى أو أن تستضيف مذهباً كانت تستبعده.
فالطوائف استثمارات للأجنبي، يستخدمها لإلغاء الأوطان ودولها، وليس ـ بطبيعة الحال ـ لبناء الديموقراطيات لشعوب العالم الثالث كما يتوهم المتوهمون.
… ونتمنى أن تجبر الأزمة الراهنة الطبقة السياسية على الخروج من النفق الطوائفي، ولو مؤقتاً، بحيث يمكن استيلاد «حكومة الوحدة الوطنية» بعملية قيصرية تفاجئ «القناصل» ولكنهم لا يجدون بداً من قبولها، ولو إلى حين، وريثما يفرغون من مسائل أخطر تشغلهم عنا في هذه اللحظة وتمنحنا الفرصة للتنفس… حتى إشعار آخر!
في هذه الأثناء يمكن أن نتسلى بالجداول المبتدعة لاستيلاد حكومة متوازنة على الورق، في انتظار توازنات أخرى.. على أرض الله الواسعة!