لم يكن وليد جنبلاط ليتجاوز »الحدود« بمخاوفه لو أن رئيس الجمهورية لم يكن قد انزلق إلى موقع »الطرف« بل »الخصم« لقوى سياسية أساسية، معظمها كان بين مؤيديه ومسانديه سابقاً، مع ما يلحقه هذا الانزلاق من أذى بحصانة »الرئيس« كمرجعية لجميع اللبنانيين، المعارض منهم قبل الموالي، وما قد ينتج عنه من »هياج« بعض السلطة واندفاعها إلى التفكير بتأديب أو معاقبة كل من تسوّل له نفسه الخروج على طاعة ولي الأمر.
ومع التقدير لمبادرة الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد إلى طمأنة وليد جنبلاط بأن سوريا لا يمكن أن تكون مصدر تهديد له شخصياً أو لأي طرف سياسي، بغض النظر عن الخلاف حول الموقف السياسي، وأنها معنية مباشرة بضمان أمنه وسلامة أسرته، كما سائر السياسيين اللبنانيين، لا سيما المختلفين معها في مواقفهم، فإن »غياب« رئاسة الجمهورية عن دورها كمرجعية وطنية عليا منزهة عن الخصومات والأحقاد والانتقام، جعل هذه المبادرة ضرورية لا بالمعنى الأمني فحسب بل بالمعنى السياسي أساساً.
والحقيقة أن الرئيس إميل لحود قد تورط في العديد من الخصومات وخسر العديد من الأصدقاء والمناصرين من قبل »حرب« التمديد ثم من بعدها، فبات موقعه الممتاز يفتقد الحماية الضرورية لمن يفترض أن يكون الحَكَم والمرجع الأخير للبنانيين جميعاً، بغض النظر عن مواقفهم السياسية وهل هم في المعارضة أم من أهل الموالاة.
ربما لهذا يبدو كأن الرئيس لحود هو »الغائب الأكبر« عن كل المحاورات والمناقشات السياسية، فهو يتلقى ولا يبادر، ويرد أحياناً ولكن بمنطق الطرف لا الحَكَم.
من القصر الجمهوري في بعبدا يكرز الرئيس لحود، يومياً، على مسامع زواره، وبينهم من يُستقدم فيلبي لأن موقعه (أو طموحه) يفرض عليه التلبية، بعض الكلام الإنشائي الفخم عن دولة المؤسسات، في حين أنه شخصياً كثيراً ما هاجم »الخصوم« وندد بالشركاء الأعداء، لأنهم حالوا دونه ودون بناء دولة المؤسسات.
يستقبل النواب (الموعد، عادة، في حدود خمس دقائق) فيسمع منهم المطالب ويطلق الوعود بتلبيتها، ناسباً التقصير إلى الحكومة (الحريري، تحديداً)، واعداً باستدراك ما فات في »العهد الجديد«.
يستقبل الوزراء، بين حين وآخر، ويُذاع أنه أعطاهم التوجيهات، ولكن الحال تستمر هي الحال…
يستقبل أهل القضاء ورؤساء أجهزة الرقابة الإدارية فيشدد على الطهارة وضرورة محاربة الفساد والفاسدين، ثم يمضي إلى شؤونه يخالجه الشعور بأنه قد أتمّ ما عليه كاملاً…
رئيس الجمهورية يهتم بالبيئة، بالبحر، بالماراتون، بالأندية الرياضية، بيوم العَلَم، بتمثال الشهداء… ولكنه نادراً ما يهتم بالسياسة أو يتحدث في السياسة، اللهم إلا إذا استدعت الأحوال أو التطورات أو التحرشات الدولية إعادة تثبيت الموقف المبدئي من العلاقة مع سوريا أو المقاومة، فإنه يعود إلى تأكيد الثبات على البديهيات.
وتتبدى المفارقة عظيمة بين الواقع والكلام: فالبلاد تكاد تغرق في مشاريع الفتن، والرئيس يكرز وصاياه الطوباوية في الوحدة وتجليات خطاب القسم، والحكم ينشق على نفسه ويبتعد عن الناس بمطامحهم وهمومهم، والرئيس مستمر في تفاؤله.
السياسة غائبة عن الحكم تماماً، أو أن الحكم بريء من السياسة… إذا حضرت الحكومة غاب الرئيس، وإذا حضر الرئيس غابت الحكومة، وفي الحالين لا قرار في المسائل الجدية وفي الأزمات التي تكاد تخنق اللبنانيين والتي تمتد من الاقتصاد إلى الأوضاع الاجتماعية إلى الشؤون السياسية، قبل القرار 1559 ومعه وبعده.
لكأنما مجلس الوزراء مؤسسة معقمة ضد السياسة: لا في »عهد« رفيق الحريري كان الشأن السياسي حاضراً، ولا مع حكومة كرامي.
على هذا بقيت »السياسة« في الشارع تستولد الانقسام وتعمّقه.
صارت »السياسة« كأنها من صميم »المعارضة«، وليست أولى واجبات الحكم، لا سيما أن المجلس النيابي معطل عن السياسة وممنوع من ممارستها لعيب في الولادة.
لا أحد يطالب رئيس الجمهورية، وبالتحديد العماد إميل لحود، بأن يكون »السياسي الأول« أو خاصة »السياسي الأوحد«.. ولكن أبسط واجبات هذا الرئيس أن يكون المرجع الأخير للجميع، وأن يكون العامل الأكثر فاعلية في تدعيم الوحدة الوطنية، وأن يكبر على الخصومات والمناكفات فلا يقاطع أحداً، ولا »يحارب« أحداً، ولا يطلب لنفسه أو لأهله شيئاً، بالفعل لا بالقول، بما يبقيه خارج دائرة التجاذب بالنفاق أو بالنكاية، ويظل مؤهلاً بسبب من حياده لأن يكون الجامع المشترك الأكبر: في قلبه وعقله مساحة للمعارضة ومطالبها، لا سيما متى اتصلت بالمصلحة الوطنية العليا، ويشغله دائماً الهمّ والتساؤل: هل تراني أدّيت واجبي تجاه الوطن الذي أعطاني فوق ما تمنيت بل وما حلمت به؟!
هل من التجني أن نسأل الرئيس لحود، مثلاً: مَن معك من القوى السياسية الفاعلة في البلاد، وعلى أي قاعدة يقوم التلاقي (حتى لا نقول التحالف) بينك وبينها؟!
إن مروحة »الخصوم« تشمل العديد من القوى السياسية التي لم تكن كلها في الماضي، وقد لا تكون اليوم، في موقع الاختلاف الجدي مع الموقف السياسي للحكم، بخطوطه العريضة. لكن الحوار المعطل يؤدي غالباً، إلى سوء الفهم، أو سوء تقدير الموقف، وبالتالي إلى »الحكم الغيابي«، ومن ثم إلى التصنيف المتسرّع الذي يمكن أن يتحوّل إلى »التجنّي« المقصود.
ونفترض أن من الصعب على الرئيس إميل لحود أن يسمي »حليفاً واحداً« له، شخصياً، على قاعدة سياسية سواء داخل الحكم أو خارجه.
وحتى من يحتسبون اليوم على الرئيس لحود داخل الحكم والحكومة فإنهم قد جاؤوا من خارج السياسة، وهم لم يضيفوا كثيراً أو قليلاً إلى الرصيد السياسي لموقفه أو لموقعه.
وهكذا وبينما تضج البلاد بالمحاورات السياسية، التي وصلت إلى حد استخدام الشارع مسرحاً لها، وإلى حد تسخير البديهيات في معارك استقطاب الولاءات، فإن الطرف الوحيد الذي يبدو خارج دائرة الحوار هو رئيس الجمهورية… بينما معظم الخلافات والمنازعات تنطلق من غياب دوره، أو من التغييب الإرادي لهذا الدور.
إن القصر الجمهوري يشكو الجفاف.
إنه ليس المرجع الأخير، وليس هو دار الندوة السياسية، وليس هو ملتقى المتعارضين لكي يجتمعوا بآرائهم وجهودهم من حول ما يساعد على إخراج لبنان من أزماته المتوالية.
وليس المطلوب من رئيس الجمهورية أن ينقلب على نفسه، ولكن أن يمارس دوره، لأنه الوحيد الممنوع عليه دستورياً أن يكون طرفاً، والوحيد المطلوب منه أن يكون أرض اللقاء بين المختلفين معه وعليه.
فماذا ينتظر رئيس الجمهورية لكي يفتح باب القصر أمام الجميع، ويستقبلهم ليستمع وليفكر وليسعى من أجل تدعيم الاستقرار وتعزيز الثقة بالحكم الذي يتسع للجميع (بدليل بعض من أُتي بهم إلى الحكومة الجديدة)، والذي يبرّر وجوده بنجاحه في توطيد الوفاق الوطني وباستقطاب القوى جميعاً للمساعدة في محاولة إنقاذ، قد تكون تأخرت عن موعدها، ولكن لا بد منها أقله لوقف الانهيار.