يفتقد المواطن اللبناني الموفدين العرب ، في زحمة الجولات الاستطلاعية التي يتناكب فيها المبعوثون الاجانب، فلا يكاد يغادر بضعة منهم حتى يصل بضعة آخرون، يزحمون الشوارع الضيقة اصلاً بمواكبهم ذات الصافرات الزاعقات لكي تفتح لهم الطريق المقفلة على الحلول…
ومع وعي المواطن اللبناني ان تكاثر الموفدين دليل على خطورة الازمة، وعلى غياب الحل عن أفق الحركة، ومحاولة استكشاف موعد الانفجار المرتقب، الا انه لا يستطيع الافتراض ان غياب الموفدين العرب هو دليل على اطمئنان قادتهم، ملوكاً ورؤساء وسلاطين واصحاب سمو، الى ان أوضاعهم الثابتة كالصخر لن تتأثر بالانفجار اللبناني المقدر انه سيكون نووياً في قوته وارتداداته المرتقبة…
ولا يستقيم الافتراض ان هؤلاء القادة مشغولون بالكوارث التي تلتهم العراق كياناً سياسياً وأرضاً وشعباً، نتيجة للاحتلال العسكري الاميركي واخفاقاته، بدليل ان هؤلاء لم ينفروا الى قمة طارئة خاصة بالدم العراقي، وان كانوا قد لبوا اي دعوة وكل دعوة وجهتها ادارة الاحتلال الى اللقاء لمناقشة سبل تخفيف عبء الخسارة عن الصديق الاميركي. وغالباً ما شملت الدعوة ملوكاً ورؤساء ووزراء ومسؤولي الاجهزة الأمنية ممن يقرأون الغيب بلا وسيط…
كذلك فمن غير المؤكد ان هؤلاء القادة قلقون نتيجة الفصول الجديدة من النكبة الفلسطينية والتي يتسبب فيها الصراع على السلطة داخل السجن الاسرائيلي، والاقتتال الدموي بين المسجونين الذين تنبهوا الآن فقط الى اختلاف تفاسيرهم لقواعد الدين الحنيف وتعاليمه الخاصة بالصلاة في الاماكن المفتوحة… حتى لو كانت على راحة نفس الوطن الذي كان سليباً و مغتصباً ، وهو الآن يتعرض للاغتيال بأيدي من كانوا قد نذروا أنفسهم لتحريره. انهم يحررون فلسطين، فعلاً، من فلسطينيتها ويسلمونها، مجرحة الروح، مهمشة الفؤاد، محطومة الارادة لمحتلها الاسرائيلي… وهم يهمون على التوقيع على وثيقة استسلامهم بدمائها الطاهرة.
ولهذا الغرض زاوجت الادارة الاميركية بين قمة السلام العربي المجيدة وقراراتها النافذة وبين دعوتها الى مؤتمر دولي لإعلان وفاة فلسطين رسمياً وبشهود من أهلها الأقربين!
لكن قلق هؤلاء القادة على فلسطين لم يصل الى حد التدخل ولو بالنصيحة، او باستدعاء الاطراف جميعاً وإجبارهم على التوافق، ولو على الحد الادنى، حتى لا يدفع سائر العرب، وفي اقطارهم، ثمن الانتصار الاسرائيلي الجديد على القضية وأهلها في الداخل والخارج، وعلى الرباط المقدس الاخير الذي كان يعطي للهوية العربية المعنى الجامع لهذه الشعوب المهددة الآن بفقدان معنى وجودها… الا كعبيد، بمن في ذلك اهل النفط منهم. فالذهب لا يحرر من يذهب الى السيد طالباً ابقاءه رقيقاً لديه، خوفاً على ذاته وذهبه من الحرية!
[ [ [
…هل من المستغرب بعد، ان ينسى العرب المذابح التي دبرها الاجتياح الاسرائيلي للبنان واحتلاله بيروت، في مخيمي صبرا وشاتيلا، وقد ذهب ضحيتها اكثر من ألف وخمسمئة فلسطيني وعشرات اللبنانيين، وألا يتذكرها الا اثنان: بعض من تبقى من ذرية ضحاياها، وبعض المناضلين من احرار العالم الذين يجيئون إلينا في ذكراها كل عام، وبالمقابل بعض المنتصرين مجدداً على ضحايا المذبحة (سابقين ولاحقين) والذين عادوا يتطلعون الى رئاسة الجمهورية التي شغلوها مرة فقضوا على الجمهورية ذاتها، وما زال اللبنانيون يدفعون حتى اليوم كلفة تلك الخطيئة المميتة .
[ [ [
ثم ان هؤلاء القادة الذين لا تهزهم الريح، سواء اجاءت محملة بشميم الدم، أم برائحة المؤامرات الجديدة على هذه المنطقة، لم يتوقفوا لحظة وأنهم لم ينتبهوا اصلاً الى عملية الاختراق الاسرائيلي للاجواء السورية، برغم كل ما قيل فيها وعنها، وان لم يخفف من غموضها المقلق. ولقد ظل بيان الخارجية المصرية يتيماً، بقدر ما تبدى استنكار الحكومة البتراء في لبنان اقرب الى المجاملة المجانية، في حين ان القوى المشاركة في هذه الحكومة لم تر في الغارة الا ما قالته بعض المصادر الاسرائيلية او الاميركية (وكلاهما واحد) من انها تستهدف عند دير الزور، على حدود العراق، سلاحاً مرسلاً الى حزب الله في لبنان، ثم تبنت هذه الرواية الخرقاء لتجديد حملتها الرئاسية ضد سلاح المقاومة .
حتى تركيا التي اعترفت قيادتها العسكرية بأن الطائرات الاسرائيلية المغيرة قد اخترقت اجواءها في طريقها الى هدفها السوري الغامض(!!)، لم تعتبر ذلك الاختراق عملاً عدائياً، واكتفت بطلب تفسير من حكومة اسرائيل، التي تعاملت مع الامر وكأنه سر حربي خطير، تاركة لكل طرف في الداخل كما في الخارج ان يرى فيه ما يناسبه… مفترضة ان الغموض سلاح اضافي، لعله اكثر فعالية من الخرق الجوي؟
وكان متوقعاً من تركيا اكثر بكثير من طلب التوضيح، لاسباب تتصل بموجبات سيادتها على مجالها الجوي، قبل الحديث عن ثوابت العلاقات بين سوريا وتركيا، وهي في هذه الايام ممتازة بحسب توصيف الطرفين الجارين لها…
[ [ [
ونعود الى الموفدين المتقاطرين الى بيروت في محاولة لفهم الالغاز اللبنانية ، من دون امل في النجاح، لنقول إنهم يزيدون من قلق اللبنانيين على مستقبل جمهوريتهم وعلى مستقبل ابنائهم فيها، فليتهم يخففون عنا… على الاقل ازمة السير الخانقة التي ترافق وصولهم وجولاتهم حتى مغادرتهم بالسلامة بصافرات مواكبهم التي تشبه العويل الإنذار بقرب وفاة المريض!
…وحبذا لو ان خادم الحرمين الشريفين قد خص اللبنانيين بمثل ما خص الفلسطينيين من قبل، في مكة المكرمة، وبمثل ما يخص به القيادات المقتتلة في الصومال الذين جمعهم في مؤتمر للمصالحة، أمس، من اهتمام ورعاية، بشرط واحد: ان يستبقي الملك عبد الله القيادات اللبنانية التي تلبس هذه الايام ثياب الحرب الاهلية، في ضيافته حتى يتوبوا عما تقدم من ذنوبهم وما تأخر…
[ [ [
ونعرف ان هذا الاقتراح من تخاريف رمضان … مع ان اللبنانيين صائمون من قبل رؤية هلال رمضان ويبدو انهم سيصومون طويلاً بعد انقضاء الشهر المبارك؟