بتواضع المنتصر وصلابة المجاهد المؤمن ووطنية الوحدوي، أطل السيد حسن نصر الله، أمس، على لبنان والعرب والعالم، كاسراً حاجز التخويف من غارة إسرائيلية تستهدفه حتى لو كان في قلب بحر بشري جاءت جماهيره من الجهات الأربع وقلوبها في عيونها.. لكي تراه فتحميه بقدر ما حمت المقاومة كرامتها وعزتها.
.. وكان الخطاب في مستوى المناسبة التي أريد منها إعادة الاعتبار إلى النصر الذي “شهدت به الأعداء”، لكن المتخوّفين منه حاولوا تقزيمه بتعظيم كلفته، ثم تمادوا فأنكروه تماماً بل وقلبوه إلى “هزيمة” وافتتحوا محاكمة نصّبوا أنفسهم قضاتها لمحاسبة “المسؤولين عن تدمير لبنان”!
تعالى “السيد” على أن يكون طرفاً مخاصماً للآخرين، مجتمعين ومنفردين، وتجاوز وجع التجريح والتشكيك والتجني ليطمئن اللبنانيين أن “لا فتنة ولا تقسيم ولا فيدراليات ولا كانتونات طائفية”، وليحدد المطلب والهدف: الدولة القوية القادرة والعادلة.
ثم ان “السيد” الذي رفعه الانتصار بالصمود في الحرب الإسرائيلية بقرار أميركي، إلى مرتبة “الزعيم العربي”، فصار “بطلاً للأمة”، أطلق رؤياه التاريخية مديناً التنازل أمام العدو والمساومة على الأرض استنقاذاً للعرش، محرضاً على المواجهة التي بها تستعاد الحقوق الوطنية والقومية، ومعها الكرامة والحق بالمستقبل الأفضل.
كان “البحر البشري” الذي زحف للقاء “السيد” والاطمئنان إلى سلامته، والاستماع إليه، مرة أخرى، مباشرة وبالصوت الحي، متوفزاً، تتآكله المرارة، ويأخذه الحنق من نكران تضحياته الجسيمة، في أهله ودياره، من أجل حفظ الوطن، إلى الغضب بل الثورة على من حفظهم دمه فأنكروه، وعلى من فتحوا البازار لبيع جراحه فأهانوه مرتين.
لكن “السيد” الذي يعرف ما هو أدهى وأخطر، بحكم مسؤوليته، كان قد حسم أمره فقرّر التسامي على صغائر تجار الدم، المروّجين للهزيمة كاستثمار، وهكذا فقد ارتفع بخطابه إلى تحدي الإدارة الأميركية التي تولت القيادة الفعلية للحرب الإسرائيلية، وأطالت أمدها بقرار مباشر لعل “الجيش الذي لا يهزم” يعدل النتائج على الأرض، فتكون ساعة الخلاص من مبدأ المقاومة، ومن وهجها الذي أخذ يجتاح المنطقة العربية منذراً عروش المتواطئين على شعوبهم بأن تنازلاتهم المتمادية لن تحميهم إلى الأبد.
لم تكن مصادفة أن يستعيد السيد حسن نصر الله مضمون خطابه التاريخي في بنت جبيل قبل ست سنوات وأربعة شهور، ليعلن أن الكل شركاء في هذا النصر “فهو ليس لحزب ولا طائفة” بل هو لكل من ناضل وجاهد وصبر ودفع الضريبة من دمه أو من رزقه من أجل التحرير… ولأنه نصر للوطن فمن حق حماته أن يكون الوطن لهم، وأن تكون دولته دولتهم جميعاً بلا تفرقة بينهم أو تمييز، يعيشون فيها كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
ترفّع “السيد” عن تحقير أي طرف، وإن كان أقرّ بالاختلاف سياسياً مع أطراف معروفة وموصوفة، داعياً “مرة أخرى” إلى معالجة الخلاف بالحوار، انطلاقاً من تسليم الكل بوطنية الكل.
أما الحكم فقد أعاد “السيد” التوكيد على ضرورة تحصينه وتمكينه من القرار وذلك بإعادة صياغته على قاعدة متينة من الاتحاد الوطني، بدلاً من المماحكة حول “أكثرية” لا تقدر “منفردة” على الإنجاز، و”أقلية” لها من القدرة ما يمكّنها من الصمود في وجه إسرائيل، ثم ان قوتها على الارض أعظم من أن يجري تجاهلها، فضلاً عن أن الاتحاد “سياسياً” يعزز من مناعة الوطن، ومن قدرة الحكم على مواجهة المسؤوليات الثقيلة التي تنتظر من هو مؤهل لإنجازها.
ولأن فلسطين هي “القضية”، والمقاومة هي طريق التحرير، فقد جعلها في خطابه، كما هي في عقيدته وجهاده، “الهدف الأسمى”، مديناً من يتخلى عنها من المسؤولين العرب، بل ويتواطأ عليها فيشارك في حصارها بالتجويع والإذلال ويمنع المدد عن شعبها، تاركاً العدو الإسرائيلي يعمل فيه تقتيلاً وتشريداً، أما الأرض فيلتهمها قطعة قطعة بالمستعمرات وبجدار الفصل العنصري وبالمصادرة إلخ..
ولأن الاحتلال الأميركي للعراق قد هدم دولته ومزق وحدة شعبه وأشعل في جنباته نيران الفتنة، فقد كان طبيعياً أن يحذّر “السيد” من تواطؤ المسؤولين العرب عليه، وأن يرفع صوته مؤكداً أن صمود المقاومة حتى إفشال الحرب الإسرائيلية وإحباط أهدافها المعلنة قد حمى لبنان من فتنة فيه لا تبقي ولا تذر… وعلى عكس المتوقع فإن انتصار المقاومة في لبنان يمكن أن يساعد على الحد من الفتنة في العراق، خصوصاً إذا ما تنبّه المسؤولون العرب إلى أن النار التي تحرق أرض الرافدين وشعبها لن تبقى محصورة فيها، بل هي سوف تمتد لتطالهم في أقطارهم.
لقد استولد الصمود في مواجهة الحرب الإسرائيلية حتى إفشالها ومنعها من تحقيق أهدافها، قائداً مؤهلاً يطمح إلى تجديد حركة “الثورة العربية” من أجل التحرير وتمكين الشعب من حقوقه في وطنه وكل ما يمكن إدراجه في “حلم” الديموقراطية… خارج إطار كابوس الشرق الأوسط الجديد!
كان ضرورياً أن يطل “السيد”، فيعزز إيمان “البحر البشري” الذي احتشد للقائه، أمس، غير بعيد عن “المربع الأمني” الذي سيعاد بناؤه أمنع مما كان، بزخم النصر وعرق المجاهدين والمؤمنين بالمقاومة طريقاً لتحرير الأرض والإرادة.
وكان ضرورياً أن يطمئن “السيد” اللبنانيين إلى أخوّة الدم التي تربط المقاومة بالجيش والجيش بالمقاومة… وأن يجهر بقبول “اليونيفيل” مع التحذير من أن تتجاوز حدود مهمتها كما بيّنها قرار مجلس الأمن (غير المقدس) 1701.
… وها ان أبواب الحوار مفتوحة على مداها، لكي تعود القيادات إلى إثبات أهليتها بإنجاز مهمتها الوطنية الجليلة في بناء “الدولة القوية القادرة والعادلة”، دولة كل اللبنانيين بغير تفرقة أو تمييز، وبغير ارتهان للخارج، بشهادة الدم الذي حمى وجودها وهيكلها وعلمها والنشيد.
السفير، 23 أيلول 2006